الدولار.. العملة الخضراء التي دفنت «البانكور»
| أكرم سعيد
«الدولار هو عملتنا، ولكنه مشكلتكم»، عبارة قالها وزير الخزانة الأميركي جون كونالي عام 1973 خلال اجتماعه مع إحدى اللجان الأوروبية للسياسة النقدية، لم تكن عبثاً، وما زال صداها يتردد أمراً واقعاً إلى يومنا هذا.
بالرغم من ظهور عملات أجنبية أخرى منافسة، إلا أن الدولار ما زال هو العملة الأقوى في السوق الاقتصادية والمهيمن الأكبر في كافة العمليات التجارية والاقتصادية، حيث يشكل 60 بالمئة من احتياطات دول العالم حسب صندوق النقد الدولي، ولكن هل أصبحت هذه العملة الصعبة كما يسميها البعض بمثابة الذهب الجديد، الداعم الأساسي لها بحسب اتفاقية «بريتون وودز»؟
في عام 1944، وقّعت 44 دولة على اتفاقية «بريتون وودز» لنظام نقدي يحدد العلاقات التجارية والمالية بين الدول، ويضمن عدم اتباع أي دولة سياسة اقتصادية تضر بالدول الأخرى أو شن حروب اقتصادية أو تجارية، وبناء عليها أصبح الدولار هو العملة العالمية في الصفقات التجارية وثبتت أسعار العملات الأخرى مقابل الدولار على أن يكون مدعوماً بالذهب، أي إمكانية استبدال كل 35 دولاراً بأوقية من الذهب، بمعنى أن احتياطات الدول من الدولار يمكن استبدالها بالذهب من البنك المركزي الأميركي.
استمرت هذه الحالة حتى عام 1971، ما عرف بـ«صدمة نيكسون»، عندما أعلن الرئيس الأميركي في خطاب متلفز عن فك الارتباط بين الدولار والذهب «لفترة مؤقتة»، والسبب الذي دفعه لذلك ما تكبده الاقتصاد الأميركي من خسائر خلال حرب فيتنام، وهو أمر طبيعي، لأن الحروب بحاجة إلى تمويل وكيف لأميركا أن تشن حروباً دون تمويل كافٍ لها، ولكن «الفترة المؤقتة» التي أعلن عنها الرئيس ريتشارد نيكسون ما زالت مستمرة إلى وقتنا الحاضر، ربما كانت النية في ذلك رغبة منه في عدم إعطاء تفاصيل أكثر، أو لربما بالفعل كان القرار لفترة مؤقتة ومن ثم لم يكن من مصلحة الولايات المتحدة العودة لتطبيق اتفاقية «بريتون وودز» بالصيغة المتفق عليها، وبذلك أصبح الدولار عبارة عن ورقة نقدية تحمل أرقاماً مختلفة دون أن تكون مدعومة بالذهب، وأصبحت علاقات الدول الاقتصادية مع الولايات المتحدة الأميركية محكومة بالثقة فقط، الثقة بمن يقوم بطبع هذه العملة الخضراء.
لكن ماذا لو تم صياغة اتفاق «بريتون وودز» بناء على رؤية البريطاني جون كينز بدلاً من رؤية الأميركي دكستر هوايت؟ وهل باستطاعة دول العالم في وقتنا الحالي صياغة اتفاقية جديدة للنظام النقدي تضع فيها حداً للدولار؟
كانت خطة كبير الاقتصاديين في الخزانة البريطانية جون كينز، تتمحور حول تشكيل عملة احتياطية أسماها «البانكور»، والتي لم تر الضوء أبداً، تحت إدارة بنك مركزي يتركز دوره بإصدار العملة ويتمتع بسلطة واسعة في اتخاذ الإجراءات اللازمة، ويتم ذلك بسعر صرف ثابت أمام الذهب، وتكون المدفوعات الدولية من خلال «البانكور» والذهب، إضافة إلى أنه يمكن الحصول على «البانكور» من خلال بيع الذهب.
تسمح خطة كينز لجميع العملات المهيمنة بأن تكون مشتركة بعملة موحدة هي «البانكور» وتكون معدلات الصرف ثابتة، ولكن سعي الولايات المتحدة الأميركية في لعب دور اقتصادي أوسع، إضافة إلى القوة الاقتصادية والعسكرية التي تتمتع بها أعطاها فرصة كسب أصوات أغلبية المشاركين لمصلحة خطة الأميركي هوايت.
بعد هيمنة الدولار عالمياً، سعت كثير من الدول إلى فك تبعيتها للدولار ولكن لا تجد وسيلة تمكنها من ذلك، ويمكننا القول إنه من المستبعد صياغة اتفاقية لنظام نقدي جديد لأنه ليس من مصلحة أميركا اللعب في عالم لا تكون فيه العملة الرئيسية هي الدولار والتي من خلالها تستطيع التحكم بالاقتصاد العالمي.
لعب الدولار دوراً مهيمناً أمام العملات الأخرى، وليست الليرة السورية هي العملة الوحيدة التي فقدت من قيمتها مقابل الدولار خلال السنوات الأخيرة، بعد أن بلغت نسبة التضخم السنوي 47 بالمئة لعام 2016 حسب تقرير المكتب المركزي للإحصاء، فقد بلغت نسبة التضخم مستويات متقاربة أو أعلى من ذلك في كلٍ من الأرجنتين وفنزويلا والأكوادور ودول أخرى، ولم يكن الأمر مختلفاً كثيراً في لبنان إبان الحرب الأهلية، حيث انخفض احتياطي البنك المركزي اللبناني من 3 مليارات دولار إلى مليار و400 مليون دولار بين عامي 1982 و1985، حسب أحد التقارير الاقتصادية، وسجّل عام 1992 أكبر نسبة لانخفاض أسعار صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار أي 2600 ليرة لبنانية مقابل 1 دولار.
لم تكن الحلول التي طرحت في عدد من الدول أمام ارتفاع نسب التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية مقابل الدولار، حلولاً ناجعة وتجربة يمكن تعميمها، كونها لا تتناسب مع السياسات الاقتصادية أو السيادة الوطنية لكل الدول، فقد قامت عدة دول بدولرة اقتصادها أي جعلت من الدولار عملة رسمية، كالسلفادور والأكوادور وذلك بعد أن انخفضت قيمة العملة المحلية السوكر ليصبح كل 2500 سوكر يعادل 1 دولار، الأمر الذي ساهم في الحد من هروب رؤوس الأموال، وجلب الاستثمارات كونه يشكل عامل ثقة بالنسبة للمستثمرين، وزيادة الأرباح من عمليات التصدير، وتحقيق استقرار اقتصادي مؤقت على حساب فقدان السيادة الوطنية في السياسة النقدية وعدم قدرة البنك المركزي على تقديم الحلول في حال حدوث أزمة اقتصادية، ومن الجدير بالذكر تصريح الرئيس الإكوادوري رافائيل كورّيا الذي وصل إلى الحكم بعد تطبيق السياسة النقدية الجديدة قائلاً إن جعل الدولار عملة رسمية في الإكوادور كان خطأ فادحاً.
73 عاماً مضت على الاتفاقية التي سمحت للدولار بأن يأخذ دوراً محورياً ومهيمناً في كافة العلاقات التجارية والاقتصادية للدول، وأصبح محور الأحاديث اليومية في الدول التي عانت أزمات اقتصادية ونسباً عالية من التضخم.
ألم يصدق حقاً كانولي في قوله: إن الدولار هو عملتنا ولكنه مشكلتكم؟!