حرب الأحزمة
| رفعت البدوي
عندما عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جلسة حوارية مع ملتقى الشباب في سان بطرسبورغ، أسهب في شرح تطورات الأحداث في العالم والتوقعات المنتظرة في ظل تشكل نظام عالمي جديد والمتغيرات الحاصلة في العالم والمنطقة العربية وتبدلات ميزان القوى على الساحة الدولية وبخاصة الساحة السورية وتغيير مواقف الدول من الأزمة هناك وصولاً إلى تنفيذ بنود الاتفاق في مؤتمر أستانا، الأمر الذي أفضى إلى إيجاد الأرضية الصالحة لتطبيق مبدأ «مناطق تخفيف التوتر» في سورية تمهيداً للولوج في ملف المصالحات والشروع في الحل السياسي المنشود.
لكن وفي الجلسة نفسها، عبر الرئيس الروسي عن مخاوفه من أن يؤدي تنفيذ تطبيق مبدأ «مناطق تخفيف التوتر» إلى ترسيخ واقع المناطق المتعددة والمتباعدة ما يؤدي إلى تقسيم جغرافية سورية.
لكن بوتين نفسه أردف قائلاً: إن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية أمر ضروري ومهم وإن العمل جار بجدية لمنع حصول أي تقسيم في سورية، وأضاف سنعمل على تجنب حصول أي تغيير بوحدة الأرض السورية.
الكثير من المراقبين لم ينتبه لما أشار إليه بوتين من وجود خشية حقيقية من احتمالات تقسيم سورية، ولو بحثنا جدياً في مجريات الأحداث الميدانية على الأرض السورية لوجدنا رجوحاً واضحاً في ميزان القوى لمصلحة الجيش العربي السوري ومحور المقاومة، الأمر الذي أسهم باستعادة السيطرة على 70 بالمئة من مجمل المساحة الجغرافية لسورية، وتسجيل انتصار واضح على مجمل التنظيمات الإرهابية المدعومة من أميركا وإسرائيل وتركيا والممولة من دول خليج النفط العربي باعتراف العدو الإسرائيلي نفسه، والدول التي شاركت بالمؤامرة على سورية وهذا أمر أشعر محور المقاومة بفائض الانتصار.
وبما أن روسيا تعتبر الحليف الرئيسي الداعم للدولة السورية ولمحور المقاومة فمن الطبيعي أن تشعر أيضاً بالانتصار، إلا أن بوتين كان له كلام من نوع آخر ألمح فيه إلى خشيته من تكريس تقسيم سورية انطلاقاً من تداخل وتشابك مصالح القوى الدولية والإقليمية فيها.
وعلى الرغم من نجاح سورية بجني ثمار صمودها الأسطوري في تغيير وجه النظام العالمي القديم الذي كان سائداً ليولد من رحم صمودها نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب بديلاً من نظام الأحادية الأميركية الذي تحكم بالمنطقة والعالم لمدة زادت عن ثلاثة عقود متواصلة، إلا أن سورية والمنطقة لم تزل تحت وطأة تأثير ذاك المخاض الذي تتشابك فيه مصالح الدول.
لقد نجحت سورية في عدم تمكين أي من الدول التي حاكت وشاركت في تنفيذ المؤامرة عليها، من تحقيق أهداف المشروع الصهيوأميركي الهادف للنيل من وحدة الدولة السورية أرضاً وشعباً وجيشاً ومؤسسات، واستطاعت سورية بفضل صمودها إضافة إلى موقعها الجيوسياسي تثبيت دورها المهم كنقطة ارتكاز محورية لا يمكن تجاوزها في عملية ولادة أي نظام عالمي أو إقليمي جديد، وبما أن ولادة النظم والتحالفات الدولية والإقليمية لا بد من مرورها بمراحل من آلام مخاض الولادة القائمة على تأمين المصالح، كان لا بد من لجوء الدول المتآمرة للسعي الدؤوب إلى حفظ مصالحها بالحد الأدنى، فكان البديل هو محاولة الانقضاض على الكعكة السورية كورقة أخيرة وتنفيذ مشروع حرب الأحزمة.
فها هي إسرائيل تسعى إلى بناء حزام أمني في الجنوب السوري يؤمن مصالحها الأمنية، وها هو محور المقاومة يحافظ على حزام عسكري في جبهة الجولان لمواجهة العدو الإسرائيلي، وها هي تركيا تسعى إلى حزام مماثل في الشمال السوري بحجة محاربة داعش والإرهاب وتأمين مصالحها بمنع حلم الأكراد في سورية، وها هي أميركا تسعى جاهدة إلى بناء حزام عبر إنشاء قواعد أميركية في الشمال الشرقي لسورية على الحدود بين العراق وسورية بهدف السيطرة على حدود التواصل بين البلدين، وها هي إسرائيل وأميركا مدعومتين من دول عربية عدة سعتا إلى حزام كردي وإجراء استفتاء على انفصال إقليم كردستان عن العراق وإعلان الدولة الكردية وذلك لخلق حزام يقتطع من جغرافية أربع بلدان: العراق وسورية وإيران وتركيا، ويقطع الطريق الممتد من إيران إلى جنوب لبنان، وها هي السعودية تحاول جاهدة استعمال الساحة اللبنانية لبناء حزام مهمته تطويق حزب اللـه والحد من نفوذ إيران إضافة إلى تطويق سورية، وذلك لتحصيل ما يمكن تحصيله من الكعكة السورية.
أما إيران فقد نجحت في بناء حزام طوق حول السعودية باستنهاض الجماعات المؤيدة لها بدءاً من البحرين وحتى المنطقة الشرقية من السعودية وصولاً إلى اليمن من خلال دعم أنصار اللـه الذي بات يشكل العقدة الكأداء للسعودية.
أما دولة الإمارات العربية فهي نجحت بإقامة حزام للتضييق على إيران باحتلالها جزيرة سوقطرة ومحاولة السيطرة على الممرات المائية في باب المندب.
صحيح أن سورية وبدعم روسي أضحت قاب قوسين أو أدنى من إعلان الانتصار التاريخي على الإرهاب وعلى المشروع الصهيوأميركي المدعوم خليجياً، لكن الانتصار يبقى منقوصاً ما لم يكتمل بإزالة كل أدوات ومسببات المؤامرة من مختلف جوانبها بما فيها السياسية الاجتماعية والفكرية والعقائدية وحتى تلك الأحزمة الأمنية المستحدثة.
نحن أمام مرحلة جديدة، فإما المخاض يسفر عن تفكيك الأحزمة، وإما عن انفجارها دفعة واحدة.
علمتنا التجارب وخاصة في لبنان أنه ما من قواعد عسكرية أجنبية أو أحزمة أمنية يمكن لها العيش أو الاستمرار بوجود تصميم على مقاومة وإسقاط كل القواعد العسكرية الأجنبية وإزالة كل الأحزمة الأمنية وتحرير الأرض والإنسان تماماً كما حصل في لبنان.