سورية.. أفول «البترودولار»
| علي محمود هاشم
من كان ليتوقع أن تتحول الصحراء السورية الصغيرة إلى مقبرة لعصر «البترودولار» الذي أخضع اقتصاديات الأرض لسطوة الأخضر!.
حتى أكثر الأميركيين المتشائمين من حروب بلادهم العدوانية في أربع جهات الأرض، لم يكونوا ليتصوّروا بأن جيوش التكفيريين التي لطالما كانت عند حسن ظن المخابرات الأميركية، أن تُسحق في سورية، قبل أن يستعد جيشها وحلفاؤه لإلقاء الدولار من أعالي 70 عاما قضاها جاثما على صدور ثروات الشعوب ومجاعاتها!.
نهاية «البترودولار»، هذه الأمنية التي نظّر إليها اقتصاديو الجنوب على مدى العقدين الأخيرين، تعود في جذورها إلى اتفاقية «بريتون وودز» عام 1944 التي أسست للقرن الأميركي بجعل الدولار عملة الذهب القياسية، ومن ثم تكاملها مع اتفاق روزفلت مع عبد العزيز السعودي على ظهر حاملة الطائرات «كوينسي» الذي قضى بضمان الهيمنة الأميركية على نفط الخليج، قبل أن يذهب كيسنجر في 1974 إلى فتح «نافذة النفط» الدولارية بديلاً لـ«نافذة الذهب» التي أغلقتها أميركا قسراً فيما سمي «صدمة نيكسون» التي أقرت فكّ ارتباطه بالدولار.
وفق قوانين القيمة، تقاس قيمة أوراق البنكنوت بمكتنزات الذهب لدى البنوك المركزية المصدّرة لها، على هذه الشاكلة، سمحت «بريتون وودز» لأميركا بتغطية تكاليف حروبها الاستعمارية العديدة على حساب العالم أجمع عبر طباعة أوراق الدولار بالاعتماد على ارتباطه بكل ذهب العالم.
الرئيس الفرنسي شارل ديغول، وعلى خلفية إدراكه اللعبة الأميركية، طالب في 1971 باسترداد ذهب بلاده من الفيدرالي الأميركي، فكان أن سطت عليه أميركا بفك ارتباطه مع عملتها.. «نافذة الذهب» هذه التي أغلقها نيكسون عقابا لديغول، لم تلبث أن استبدلت بأخرى نفطية فتحها اتفاق «كيسنجر- فيصل آل سعود» الذي أقر بيع النفط الخليجي بالدولار حصرا وتدوير عائداته بسندات الخزينة الأميركية..
وفق قوانين القيمة تلك، بات الذهب الأسود -المنتج منه والرابض في باطن الأرض- بمثابة قيمة متجددة تغطّي طباعة الدولار وبالكميات التي تريدها أميركا.. ها هنا، ولد عصر «البترودولار» الذي لطالما أسس لرفاهية أميركية دموية على حساب العالم الثالث.
هذا الأمر يعلمه السياسيون جيدا، إلا أن خرقه يضاهي الانتحار خيارا.. في 2001، وبعدما شعر الرئيس صدام حسين بخديعة حلفائه في زجّه بحروب تدميرية مع إيران وبعدهما الكويت، ذهب إلى الإعلان عن بيع النفط باليورو.. هذه الخطوة اضطرت أميركا لشراء نحو 3 مليارات برميل نفط عراقي باليورو حتى 2003، ريثما تسنى لها إيفاد مرتزقة تنظيم القاعدة من أفغانستان نحو العراق، تمهيدا لاحتلاله.
ثمن النفط العراقي، كاد يدفع الفيدرالي الأميركي «الذي لا يطبع اليورو» إلى بيع أصول حساسة لتوفيره.. مرت المعضلة بغزو أميركا للعراق مستهلة الحرب بتدمير أنابيب تمريره من كركوك إلى مصب بانياس على الساحل السوري، بعدها، تم إعدام الرئيس العراقي في سياق تراجيدي أُريد مثالا عالميا لكل من يفكر بتهديد «البترودولار»!
ولولا صعوبة اختراق إيران، كان لأميركا أن تستنسخ مثال صدام حسين مع الرئيس أحمدي نجاد، فهذا الرجل الأكثر تقشفا بعد غاندي، كان قد قلّص مبيعات النفط بالدولار إلى 15 بالمئة منذ 2007، وفي 2010، صك الرئيس الشهيد معمر القذافي ديناره الذهبي ليكون عملة بيع نفطه، فكان القتل الشنيع الذي طاله على أيدي حثالات تديرها المخابرات الأميركية، رسالة متجددة لمن سيعبث بـ«البترودولار».
اليوم، ومع إخفاق أميركا في سحق الصعود الروسي الصيني وتمديد صلاحية «البترودولار» باستيلاء تكفيرييها وإخونجييها على سورية، بدأت نافذة الدولار النفطية تضيق مجددا..
منتصف الشهر الماضي أعلن الرئيس نيكولاس مادورو استعاضة بلاده عن الدولار باليوان في بيع النفط، قبله بعام، ذهبت إيران إلى بيع نفطها للهند بالروبية، وقبله بآخر، اتفقت مع روسيا لتوريد نفطها مقابل سلع، وفي نيسان 2014 وقعت الصين وروسيا صفقة لتوريد مديد للغاز عبر أنابيب «قوة سيبيريا»..
الصفقة الأخيرة الأكبر في التاريخ، وما أن يوافق الرئيس بوتين على تداولها باليوان -وهذا رهن بسحق ناجز للإرهاب في سورية- حتى يتحول «الغمر الدولاري» المستوطن في بنوك العالم المركزية إلى «تسونامي» يحاكي فيه انهيار «البترودولار»، سلفه «بريتون وودز».
«عصر الدولار الجليدي» يمطر أمنياته اليوم فوق البادية السورية إيذانا بولادة العالم الجديد على أنقاض 7 عقود من الهيمنة التي عاشتها شعوب العالم الثالث، وكأنها دهر.