اتفاقية أنقرة الأولى اتفاقية آنية أم مخطط مستمر؟ … الحدود الوهمية التي وضعتها فرنسا حلت محل الطبيعة
| د. سركيس بورنزسيان
انتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة نكراء لتركيا، واستسلمت تركيا للحلفاء بموجب اتفاقية هدنة مودروس 30 تشرين الأول 1918.
ومن المعروف أن نتائج الحروب هي التي تمنح المكاسب للغالب وهو الذي يفرض شروطه على المغلوب، ولعل أحد أهم حالات الخروج عن هذه القاعدة في التاريخ الحديث هي اتفاقية أنقرة الأولى 20 تشرين الأول 1921 بين فرنسا وتركيا الكمالية، حيث أصبح المغلوبون في الحرب يتمتعون بحقوق الغالب.
وأسفرت المعاهدة الجديدة عن وضع السناجق السورية الشمالية التي كانت ضمن ولايتي حلب وأضنة ضمن الأراضي التركية، بالنتيجة أمست المدن والسناجق تحت السيادة التركية التالية: (من الغرب إلى الشرق) أضنة عثمانية، مرعش، كلس أورفة، ماردين، وجزيرة ابن عمر، وتعرف هذه المناطق باسم كيليكيا والجزيرة العليا.
وتعدّ هذه المعاهدة تمهيداً لسلسلة من المطالب الإقليمية لتركيا في الشمال السوري والعراقي، وبعد 18 عاماً كنتيجة مباشرة لهذه الاتفاقية تم سلب لواء الاسكندرونة من سورية بالتوافق مع فرنسا في عام 1939، لتستمر المطالب التركية في الأراضي السورية والعراقية حتى يومنا هذا.
المخالفات القانونية في معاهدة أنقرة
في سياق العنوان الآنف الذكر ولما سيأتي شرحه، يظهر ارتكاب فرنسا المخالفات القانونية عند توقيع هذه المعاهدة، حيث وقع هذه الاتفاقية المفوض الفرنسي فرانكلين بويون الذي كان لا يعلم شيئاً عن تركيا أو عن سورية، أو عن مشاكل شرق البحر المتوسط، والجدير ذكره حسب ما كتبه برنوني الذي كان إلى جوار المندوب السامي الفرنسي الجنرال بيليه في إسطنبول، أنه عندما وصل فرانكلين بويون، وهو مزود بصلاحيات كان يفتخر بها ويبرزها إلى جميع معارفه في المقاهي. قام فرانكلين بويون بمنح كيليكيا والجزيرة العليا إلى تركيا من دون أن يعرف تماماً أين تقع الأرض، ومن يسكنها وما النتائج المترتبة على ذلك، ولقد عمد إلى دفع خط الحدود مع سورية لمسافة 50 كم جنوباً على طول المنطقة الشمالية لسورية، متخلياً عن المرتفعات الأخيرة لجبال طوروس، ومعطياً لسورية حدوداً رخوة اصطناعية لا يمكن الدفاع عنها وهي أطول مسافة حدود لسورية مع أخطر جيرانها.
وتعدّ هذه الاتفاقية غير محقة ومخالفة للقانون الدولي، لأن فرنسا ارتكبت مخالفة قانونية من خلال تخليها عن كيليكيا لمصلحة تركيا، فالمادة الرابعة من صك الانتداب نصت على مسؤولية الدولة المنتدبة (فرنسا) عن عدم التنازل أو تأجير أو ضم أي جزء من المناطق السورية واللبنانية لقوة أجنبية، ونصت المادة 18 على أن شروط الانتداب لا تعدل إلا بموافقة مجلس عصبة الأمم. بالمحصلة كان الأتراك يحصلون على ما يريدون بغياب صاحب الحق (سورية)، على حين أن سورية لم تكن طرفاً رسمياً في الاتفاق ولم توقع عليه ولم توافق عليه.
نتائج اتفاقية أنقرة على سورية:
إن آثار خسارة كيليكيا كانت فادحة ومدمرة..
أ- النتائج المباشرة:
1- خسرت سورية بقعة من الأرض مساحتها 18000 كم2 وتسكنها أكثرية سورية كما أنها خسرت وارداتها الزراعية الضخمة.
2- تخلت فرنسا عن حدود سورية الطبيعية- جبال طوروس- ووضعت بين سورية وتركيا حدوداً وهمية غير طبيعية من الصعب الدفاع عنها.
3- تعهدت تركيا في المادة 6 باحترام حقوق الأقليات التي ظلت داخل أراضيها من دون أي ضمانات. لكنها انتهجت مخططاً إبادياً بحق العناصر غير التركية من عرب وأكراد وسريان وأرمن، وعمدت إلى التهجير القسري، وارتكاب المجازر بحقهم، ووجد الكثير من العرب والسريان والأرمن أنفسهم مهجرين في سهول كيليكيا وإلى الشرق منه وفي مرحلة لاحقة طبقت على السكان غير الأتراك مخططاً إبادياً للقضاء على لغتهم وثقافتهم، وحتى نهاية 1923 تم اقتلاع معظم السكان غير الأتراك من كيليكيا والجزيرة ولاحقاً تمت مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
4- اعترفت فرنسا في المادة 7 للأقلية التركية في لواء الإسكندرونة بحقوق ثقافية وهو ما مهد الطريق لتركيا لسرقة لواء الإسكندرونة بعد 18 عاماً من توقيع الاتفاق.
5- نتيجة لخط الحدود الوهمية بقيت مصادر المياه ضمن الأراضي التركية، ما جعل الأتراك يتحكمون بها مستقبلاً للضغط على سورية والعراق.
ب- النتائج غير المباشرة:
1- إن خط الحدود الوهمي المرسوم بموجب المعاهدة جعل طول الحدود السورية التركية تصل إلى 700 كم وهذه الحدود طويلة وهشة من الناحية الإستراتيجية وهو ما سيمكّن تركيا مستقبلاً من التدخل في الشؤون الداخلية السورية، فهذا الخط الوهمي من الصعب جداً مراقبته من جانب واحد من الحدود، وبعد أكثر من 90 عاماً من توقيع المعاهدة، فتحت تركيا الحدود أمام ألوف المقاتلين الأجانب ليدخلوا سورية ويعبثوا بأمنها.
بالنتيجة فإن اتفاقية أنقرة أججت المطامع التركية في البلاد العربية، وشجعت القادة الأتراك للمزيد من المطالب، وعند كل فرصة سانحة من توتر أو حروب ستطفو هذه المطالب على وجه الأحداث في المنطقة، وسنسمع الأصوات التركية المطالبة بالحقوق التاريخية لتركيا في سورية والعراق.
فإذا كان المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون حالوا دون سيطرة تركيا على تلك المناطق في مطلع القرن الماضي، فإن القادة الأتراك منذ اتفاقية أنقرة وحتى اليوم لم يتوقفوا عن التذكير بحقهم المزعوم في أراضٍ سورية وعراقية.
«1» في عام 1926 جاهرَ مصطفى كمال أتاتورك أمام النواب الأتراك الهائجين والمعترضين على توقيع اتفاقية الموصل 1926 قائلاً: «سنستعيد الموصل في الوقت المناسب ريثما يأتي وقت نكون فيه أقوياء، ونضع يدنا على الموصل».
«2» في عام 1941 أثناء المفاوضات بين فرنسا فيشي وتركيا، طالب سراج أوغلو بضم منطقة حلب ومنطقة الجزيرة إلى تركيا، ورفض بنوا ميشان المفاوض الفرنسي الاستجابة لهذا الطلب.
في عام 1991 أشار تورغوت أوزال في حديث له إلى أن العراق جزء منا.
في عام 1994 اكتفى سليمان ديميريل بالمطالبة بالموصل.
في عام 2004 لوّح عبدالله غول بضم الموصل.
أما اليوم فنرى أردوغان وارث الرجل المريض يُفصح عن أوهامه وأحلامه علانية، فهو يسعى إلى تحقيق الأحلام السلجوعثمانية من خلال الاستثمار في الإرهاب العابر للحدود والقارات، ولعل إعلانه الشهير يجسد هذه الطموحات عندما صرح أمام وسائل الإعلام قائلاً: «سنصل إلى أي مكان وصل إليه أجدادنا على ظهور الخيل». هذا الهدف الإستراتيجي لتركيا عبر عنه وأكده كل من أردوغان ويلديريم وجاوشوغلوا، عندما بدؤوا الحديث عن مشروع توسيع الحدود الإدارية لتركيا لضم الشمال السوري والعراقي من حلب إلى كركوك، ويعتبر السعي التركي الحالي إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة في الشمال العراقي والسوري (قاعدة بعشيقة، جرابلس) والاتجاه جنوباً بذريعة مكافحة الإرهاب تمهيداً لتنفيذ هذا المخطط التوسعي واليوم نرى بدء تنفيذ هذا المخطط في الشمال السوري من خلال محاولات إنشاء قواعد عسكرية تركية دائمة مثل القاعدة التركية في جبل عقيل في منطقة الباب ومحاولة إنشاء قاعدة أخرى في جبل الشيخ بركات في محافظة إدلب بموجب اتفاق تخفيف التوتر في أستانا وهو الذي يعتبر انتهاكاً صريحاً لسيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها.
أخيراً: تعدّ معاهدة أنقرة الأولى سابقة في العلاقات بين سورية وتركيا، حاول الساسة الأتراك جعلها قاعدة يعتمدون عليها للمزيد من الهيمنة والتوسع والاحتلال.