ثقافة وفن

عفيف بهنسي الدمشقي الموسوعي الآثاري … وجوه دمشق الجمالية والمعمارية والفنية كانت هاجسه

| نزار نسيب القباني

ولد الأستاذ الدكتور عفيف البهنسي في دمشق عام 1928، من أسرة نسبها السيف والقلم، متمثلة بجده الأعلى الأمير المهلب بن أبي صفرة الأزدي جد العلامة الجغرافي الحسين بن أحمد المهلبي، البهنسي الشهرة والأصل، القاهري المولد والمنشأ، الدمشقي الموطن والوفاة.
يعتقد أنه أتى إلى دمشق منذ ألف وخمسين سنة هجرية ونيف من منطقة البهنسا في الفيوم على ضفاف نهر النيل الغربية في صعيد مصر ويقال في البهنسا أنه نزل فيها عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام.
وقد كان اسمها بهاء النساء نسبة إلى ابنة أحد الملوك ثم فتح العرب المسلمون البهنسا في عهد الملك الطلس بعد حصار طويل.

ومن أجداده مفتي الحنفية بدمشق محمد نجم الدين بن محمد شمس الدين البهنسي المتوفى 987هـ 1578م كما جاء في كتاب البهانسا في دمشق يتجول القارئ في مؤلفات الباحث عفيف البهنسي، المتعددة الجوانب الأدبية والفنية والعلمية لتنفتح أمامه مغاليق المعرفة المعمارية العربية والإسلامية بتجلياتها الجمالية، على صفحات كتبه (القصور الأموية) و(الشام الحضارة) و(دمشق الشام) و(الجامع الأموي) و(عمران الفيحاء) مبيناً آفاق وحدتها الفنية في (جمالية الزخرفة العربية) و(ألواحها الخزفية) التي تودي بك إلى (مجاهل الأسماء في دمشق الفيحاء) وريفها على صفحات الحوليات الأثرية الصادرة في دمشق عن المديرية العامة للآثار والمتاحف، والتي أدارها الأستاذ البهنسي باقتدار حتى عام 1987م.
في عام 1977 تنادت كوكبة من رواد الفكر والثقافة والمعرفة في مدينة دمشق لتأسيس جمعية أصدقاء دمشق، حيث كان الدكتور البهنسي في طليعتهم وكان عضواً في مجلس إدارتها منذ عام 1977 لغاية 1994.
ثم عين عضواً لمجلس الإدارة منذ عام 2007 وحتى عام 2015 حيث تم انتخابه رئيساً للجمعية لتلك الحقبة الزمنية.
وقد أضفى الدكتور البهنسي بشخصيته العلمية والفنية على جمعية أصدقاء دمشق بهاء نهل أقباسه من ممارسته للتصوير والنحت والتنقيب عن الفنون الجميلة منذ خمسينيات القرن العشرين.
بعدما نال درجة الدكتوراه عن بحثه (أثر العرب في الفن الأوروبي المعاصر) من جامعة السوربون في باريس 1964، وتجددت أعماله الفنية في النحت في متحف دمشق والساحات العامة منها: الجاحظ، الفارابي، ابن النفيس، الكندي وصنف معجماً خاصاً بالمصطلحات الفنية صدر عن مجمع اللغة العربية بدمشق.
حضر خلال عمله التدريسي في جامعة دمشق العديد من المؤتمرات الإقليمية والدولية المتصلة بالأجناس الأدبية والآثارية والفنية أهلته لأن يصبح علماً علمياً في المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) ومقرها باريس باعتباره خبيراً فيها وعضواً في مجلس إدارة مركز الأبحاث للتاريخ والدراسات (أرسيكا) التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي ومقره استنبول.
أذاق البهنسي طلابه طعم ثمار الفن الناضج على معالم طريق الفن العربي ودربهم على أن حالة التذوق تتولد في الحياة المتجددة الموارة في النسيج المعماري لدمشق منذ العهود قبل الإسلامية ومنها الرومانية والبيزنطية.
وتعد دمشق إحدى المدن العشر الأكثر أهمية في العالم الروماني، ولعل أقدم ما نعرفه من تاريخ العمارة الرومانية في دمشق هو معبد جوبتر وكنيسة حنانيا التي لجأ إليها القديس بولس بعد فراره من مطاردة اليهود له، وأجزاء السور تخترقه سبعة أبواب لكل باب اسم بحسب الكواكب السبعة، وأطلق على أبوابها فيما بعد أسماء كيسان والباب الشرقي للمدينة والصغير والفرج والفراديس وتوما والسلام، وقوس النصر، وهذه تقدم نماذج راقية في العصر الروماني، وتم الكشف في العصر البيزنطي في منطقة الحريقة على بقايا قصر ذي أرضية فسيفسائية ورخامية ملونة، وابتدأت منذ الفتح الإسلامي عام 636م سلسلة من المنشآت مرت بثلاث مراحل عليها بصمات العهد السلجوقي والمملوكي والعثماني.
ويشكل فن الزخرفة المعمارية الداخلية والخارجية فيه وجهاً من وجوه العمارة الدمشقية المتنوعة الأشكال والموحدة الهوية والشخصية، وليكون لجماليته الإبداعية في خصائصه الجوانية أصالة تطرد العمارة الداخلية (البهنسي، 2002 ص 227-229 عمران الفيحاء).
تابع البهنسي كتابة أوراقه في التاريخ لعمران دمشق وأوابدها وقصورها ومعابدها وبيوتها من حيث انتهى جده الحسن بن أحمد المهلبي البهنسي (توفي 380هـ-990م) الذي ألف كتاباً جغرافياً عن مدينة دمشق أهداه إلى الخليفة القاضي العزيز بالله، وفيه: أما دمشق فإنها مدينة عادية أزلية وهي مدينة الشام العظمى وقصبة الجند، وقالوا: هي أرم ذات العماد وهي من أحسن البلاد وأجلها موقعاً سهلة جبلية، وفي شمالها جبل عظيم هو جبل قاسيون.
وقال: طول الغوطة ثلاثون ميلا وعرضها خمسة عشر ميلا ولا تكاد الشمس تصل إلى أرضها من كثرة الشجر، والمياه تخترق جميع هذه الغوطة فإنها مقسومة للمياه متوزعة للشرب (البهنسي 2002/ص71).
وبعد أن يورد الدكتور البهنسي وصفاً لدمشق القديمة ومعالمها في الربوة وقاسيون وقبور الأنبياء والصحابة والصالحين ودور الشفاء والتعليم من خلال مشاهدات الرحالة والجغرافيين ومنهم ابن جبير وابن بطوطة يعطف متعطراً بأخلاق الدمشقيين وآدابهم وعاداتهم، فأهل دمشق (أحسن الناس خلقاً وخلقاً وزياً) وأميلهم إلى اللهو واللعب. ويضيف ابن جبير: ومن عجب حال الصغير عندهم والكبير أنهم يمشون وأيديهم إلى الخلف قابضين بالواحدة على الأخرى. وأهل التمييز يمشون إلى البساتين، ولهم فيها قصور ومواضع طيبة، وأما سائر الناس فإلى الميدان الأخضر (البهنسي، 2002/ص85).
وبعد أن أصبحت دمشق عاصمة الدولة الأموية هفت لها قلوب الخلفاء لكونها جنة الدنيا كما أن أرضها مملوءة بشجر السرو والبنفسج والورود والخضار والثمار الطيبة المذاق. وليس للزهر بألوانه المختلفة جمال على وجه الأرض كما هو عليه بدمشق (البهنسي، 2002/ص33-34 عمران الفيحاء).
انقسمت دمشق بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918 إلى مدينة قديمة ضمن الأسوار ومدينة حديثة تزداد التماماً وانتظاماً خارج الأسوار، ويبلغ التناقض حده بين قسمي المدينة في أيامنا هذه (البهنسي 2002/ص35) ويثبت البهنسي خطط دمشق الهندسية العمرانية ومواقع أحيائها وتطور شخصيتها ويسترسل في شرح مخططات أبنية دمشق العريقة،ويبين مواضع شبكات الطرق وتوزيع المياه على بيوتها وبساتينها ومساجدها ومدارسها ونواعيرها وحماماتها وخاناتها وطواحينها. وإذ جاء ذكر النواعير في دمشق فلأنها ليست مقصورة على مدينةحماة فحسب.
وللتدليل على ذلك اثبت البهنسي صورة ضوئية للناعورة التي تغذي جامع محيي الدين بن عربي من نهر يزيد (البهنسي 2002/ص35). ويوازن البهنسي بين البيت الدمشقي الأصيل والبيت الدخيل الذي بتنا نأوي إليه بعد الحرب العالمية الثانية. البيت الغربي المستورد الذي لا يحترم عاداتنا ولا يقدر تقاليدنا ولا ينسجم مع مناخ بلادنا ولا يشكل مرحلة من مراحل فن العمارة التقليدي الأصيل، ويسمي البهنسي شقق البناء الحديث بالمعلبات الطابقية، (البهنسي 2002/ص237).
عدا أن البيوت في دمشق القديمة أضحت موئلاً للغرباء وأصحاب الصناعات والحرف والمستودعات التي شوه شاغلوها الأبنية واعتدوا على الزخارف الداخلية الرائعة على واجهاتها وجدرانها.
وفي ختام الحديث عن العمارة الحديثة خارج السور يلفت انتباه المطل على دمشق من قاسيون بناء صرح الشهيد المشيد عام 1993 الذي يعد من أكثر الصروح ارتباطاً بالفن الإسلامي فهو مؤلف من القبة والقوس وكلاهما من أسس العمارة الإسلامية،ولقد أراد الأستاذ الدكتور عفيف بهنسي الذي ساهم في تصميم هذا الصرح والإشراف على إنشائه أن يعبر بالقبة عن العناية السماوية التي تحنو على الشهيد وترعاه إلى جانب القوس رمز النصر.
كما ساهم الأستاذ البهنسي في الإشراف على بناء بانوراما حرب تشرين التحريرية الذي جاء آية معمارية تعبر عن الأصالة العربية الإسلامية بثوب عمراني معاصر استلهم الخصائص المعمارية الدمشقية وهذا ما استجاب له مجموعة المعماريين الأجانب الذين صمموا بناء فندق الشيراتون في دمشق.
إن ازدياد عدد السكان في مدينة دمشق أدى إلى تراجع الخدمات وتزايد الاستجرار الكهربائي والإنفاق المائي وضعف مرافق الصرف الصحي وضيق طرق المواصلات نتيجة ضغط المركبات وازدياد عددها بحيث باتت المدينة قاصرة عن استيعاب هذه الزيادة المطردة وتواجه دمشق من آثار هذه المعطيات مشكلات التلوث المتعددة الأشكال خاصة الكيميائية منها والصلبة ومتبقيات معامل دبغ الجلود التي تطرح في المجاري القديمة المستخدمة للري مما يزيد في انتشار الأوبئة وتلويث مزارع الغوطة وثمارها ونباتاتها (البهنسي 2002/ص267-268).
ويضاف إلى ذلك تهديد الطابع التاريخي لمدينة دمشق نتيجة خطط وقرارات غير مدروسة يتم الاعتذار من نتائجها بعد فوات الأوان، نتيجة عدم المهارة والخبرة ونقص الدراسات أحياناً ونتيجة برامج وخطط يمكن أن يقال في مسائلها إن فيها وجهات نظر تستحق التحقق والدراسة والمساءلة. ويطرح الأستاذ البهنسي رؤاه الإصلاحية الذي كتب عنها في (الفن الحديث بين الهوية والتبعية) وعن (خطاب الأصالة في الفن والعمارة) وحتى عن (الحداثة إلى ما بعد الحداثة) وهو الذي تابع أعمال وتوصيات مؤتمر اسطنبول عن الحفاظ على التراث المعماري والإسلامي، وكذلك مؤتمر المدينة المنورة عن العلاقة بين التراث الحضاري الإسلامي ونمو المدينة العربية.
ومما يرتئيه البهنسي من خطط وحلول لازبة الوجوب لمواجهة تحديات القرن الجديد في دمشق ضرورة حل مسألة نمو الصناعة في المدينة الذي يتقدم فيها على حساب النمو المجتمعي.
وأهمية توزيع الفعاليات المعيشية والإدارية في أنحاء المدينة حسب الحاجة والاختصاص الوظيفي الخاص والعام للمؤسسات الرسمية للدولة المرتبطة حيوياً بالمتطلبات التجارية والمالية والصناعية والزراعية والدبلوماسية.
ويسهم هذا التطوير الإداري الإنمائي في تخفيض التضخم السكاني ومن تركزه في المدينة، ويرفع من مستوى الريف على صعد متعددة للحد من ترييف المدينة ومن الهجرة العشوائية إليها ويحد من اتساع مناطق المخالفات السكنية التي كادت توازي مساحة المدينة الأصلية من وراء السور، ويضيف الأستاذ البهنسي لحل مشكلة المواصلات المتفاقمة أهمية التخطيط الواعي المستوعب لخطوط النقل الداخلي، وتأمين مبارك شاقولية للمركبات وإنشاء الجسور والعقد الطرقية العملية دون الاضطرار لاختراق مراكز المدينة، والاهتمام بالتخلص من النفايات البشرية والكيماوية من المنازل والمصانع والمشافي التي تتجاوز بإمكاناتها شبكة مجاري دمشق القديمة التي يصب بعضها في فروع نهر بردى.
ويبقى من الإنسان الباحث الأستاذ الدكتور عفيف البهنسي أنه يحاول المساعدة على الحفاظ على تحديد جينات الشخصية الدمشقية في أشكالها المختلفة، وفي العمارة القديمة والحديثة، وتجاوز جناية التبعية الغربية في نظام الأسرة، التي تحول بعضها بفعل الوضع الاقتصادي العشوائي إلى الاستهلاك دون الإنتاج الإيجابي، خاصة في الريف، والاتجاه إلى الربح والتجارة دون العلم ومتابعته، وإلى الرفاهية الرخيصة دون الجد والمسؤولية.
وتظل دمشق هاجس الدمشقي الدكتور عفيف البهنسي وهو الذي ساهم فعلياً مع جمعية أصدقاء دمشق في الدعوة المستمرة لتطوير مدينة دمشق العريقة وحمايتها من عوادي الزمن والبشر.
لقد شيعتك دمشق أمس في موكب مهيب تجلى فيه الجلال والهدوء كما أحببت وكما أردت.
رحمك الله أيها الغالي وأحسن إليك كما أحسنت لأمتك ومدينتك دمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن