في فهم ابن سلمان
| أنس وهيب الكردي
طغت الأنباء الواردة من السعودية حول عزل الأمير متعب بن عبد اللـه عن قيادة الحرس الوطني، واحتجازه مع أكثر من ثلاثين شخصية سعودية، بتهم الفساد، على ما سواها في المنطقة، وعاد الحديث عن خطوة تفصل ولي العهد محمد بن سلمان عن العرش السعودي، بعد «ليلة سكاكين طويلة» و«مذبحة مماليك»، إلا أن فهم السياق الذي تحرك به ابن سلمان، أي الإستراتيجية والتكتيكات التي توسمها في مسيرته، تغدو في غاية الأهمية وخاصةً إذا ما قيد له توطيد نفسه على رأس أغنى دول العالم بالنفط، وإحدى أبرز القوى الإقليمية في الشرق الأوسط.
أكثر من غيره من أبناء الملوك السعوديين السابقين، فهم ابن سلمان الصعوبات والمخاطر، التي تعترض طريق واحد من جيل أحفاد مؤسس السعودية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، إلى العرش الأهم في شبه جزيرة العرب، ولم يكن عليه فقط أن يجتاز من هم أكبر سناً وأكثر خبرةً منه، وأن يقنع أكثر من ثلاثين أميراً مفتاحياً، يشكلون مجلس البيعة، من بين ستة آلاف أمير من أنسال آل سعود، بهذا الأمر، وهو مستحيل، بل أيضاً عليه أن «يبازر» الأميركيين، حماة السعودية التقليديين، والذين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع مراكز القوى داخل السعودية، ويتحكمون من خلال ذلك بمفاصل ميزان القوى هناك.
أرسى ابن سلمان خطته الطموحة للوصول إلى عرش السعودية، مذ تسلم أبوه ولاية عهد المملكة عقب وفاة أخيه الأمير نايف صيف عام 2012، والأولوية الأولى التي صكها الشاب الصاعد في كواليس المشهد السعودي في ذلك الوقت لنفسه، تمثلت في نسج علاقات مع المسؤولين الأميركيين، تمكنه من الجلوس إلى طاولة التفاوض على مستقبل السعودية، أكثر من ولاية العهد ذاتها، وشكلت وزارة الدفاع، التي ورثها سلمان عن أخيه الراحل سلطان، المنصة المثلى لابن سلمان كي يلبي أولويته تلك، أما أداته فكانت: صفقات الأسلحة مع الولايات المتحدة.
من موقعه في وزارة الدفاع، أجرى ابن سلمان تحليلاً معمقاً للمصالح والتوجهات الإستراتجية التي تحكم مواقف واشنطن حيال السعودية والمنطقة، كذلك أضفى مزيداً من الفهم على التحليل الذي شكله عندما كان مساعداً لوالده، لدى تقلده إمارة منطقة الرياض، وضمناً أمين سر العائلة ورئيس مجلسها، لعلاقات القوى داخل الأسرة المالكة السعودية، وارتباطات بعض مراكزها بواشنطن، وهكذا، لم يكد سلمان يتقلد المُلك بعد وفاة أخيه عبد اللـه مطلع عام 2015، حتى برز ابنه محمد في حاشيته على الفور، رئيساً لديوانه الملكي ووزيراً للدفاع.
سلمان وابنه انطلقا سريعاً في اجتثاث تركة عقدين من حكم عبد اللـه، لم يكن ذلك بالأمر الهين، على الرغم من أن الأخير لم يكن له حلفاء أقوياء داخل الأسرة المالكة، وبعد أشهر معدودة من تقلده السلطة، أزاح الملك أخاه مقرن، الحليف الأبرز لعبد اللـه، من ولاية العهد، لكنه أبقى الابن البكر لعبد اللـه، متعب، في منصبه وزيراً للحرس الوطني، الذي أنشأه الملك السابق قبل أكثر من خمسة عقود.
عزل سلمان للأمير مقرن كان سهلاً نسبياً، لأن الأخير افتقد إلى قاعدة نفوذ حقيقية مستقلةً عن الأمير متعب، فضلاً عن أن بعض الدوائر الأميركية النافذة كانت ترتاب به، لمناداته بالتقارب مع إيران، وعلى أية حال، لم يتحقق ذلك من دون ثمن، فكان على سلمان أن يقبل شراكة مع ابن أخيه، محمد بن نايف، وأن يرفعّه إلى ولاية العهد، وإن استغل ذلك ليعين ابنه الأصغر محمد ولياً لولي العهد، وهكذا ظهر، أنه ليس من السهل حتى على شخص بمثل مهارة وحنكة سلمان، تجاوز التوازنات العائلية داخل آل سعود.
مساعي سلمان وابنه توريث المُلك للأخير، واجهت تحدياً آخر في واشنطن، فلم يكن باراك أوباما في الأساس مقتنعاً بجدوى التحالف الأميركي السعودي في المنطقة، بل إنه لم يكن مقتنعاً بأهمية الدور السعودي للإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وآراء أوباما أدت إلى تجمد العلاقات السعودية الأميركية حتى قبل وصول سلمان إلى سدة الحكم.
زاد من حنق الإدارة الديمقراطية على الملك الجديد وابنه موقفهما المتعنت من إيران، وإصرارهما على إبقاء جذوة التوتر السعودي الإيراني مشتعلة، بينما كان أوباما يهندس الاتفاق النووي معها، ومن نافل القول: إن أوباما ووزير خارجيته جون كيري، كانا «يتسليان» بمصير السعودية خلال المفاوضات السرية والعلنية مع إيران عبر وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، بل لم يتردد كيري حتى عن البحث مع ظريف، في بدائل للمستقبل السعودي.
كان أشد ما أغضب أوباما من الملك السعودي، قراره إطلاق «عاصفة الحزم» في اليمن من دون التشاور مع واشنطن، أما على صعيد اللعبة الداخلية السعودية، فلم يكن أوباما، ليعول إلا على ابن نايف وزير الداخلية، مدفوعاً إلى ذلك بآراء مستشاريه الأمنيين، ومع الممانعة الأميركية لسياساته الإقليمية، وترجيح الإدارة الديمقراطية لكفة ابن نايف، كان على ابن سلمان التريث في تنفيذ مخططه للوصول إلى العرش السعودي، إلى حين انتهاء عهد أوباما الثقيل.
ابن سلمان لم يكمن كلياً، بل عمل على تحييد منافسيه وقضم نفوذهم تدريجياً؛ فاستغل حرب اليمن لإنهاء نفوذ أبناء عمه سلطان في وزارة الدفاع، وضيق الطوق على الأميرين محمد بن نايف ومتعب، كما أخذ يصنع لنفسه موقعاً داخلياً متيناً عبر التحكم بمستقبل السعودية الاقتصادي والسياسي من خلال «رؤية 2030»، ونسج علاقات إستراتيجية مع كل من روسيا، مستغلاً ورقة النفط، وتركيا، مستخدماً معها الورقة السورية.
سنحت فرصة ابن سلمان الكبرى للعودة إلى مخططه بعد فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية، والتقط الرجل اللحظة وأرسل وزير الخارجية عادل الجبير إلى واشنطن من أجل ترميم التحالف الأميركي السعودي، وإقناع أقطاب الإدارة الجمهورية ببرنامجه للوصول إلى العرش السعودي، ونجاح الجبير في مهمته، دلت عليه الأحداث التي تعاقبت على الرياض لاحقاً.
لم يكن ترامب قد أكمل بعد شهره السادس في البيت الأبيض، عندما عزل سلمان، محمد بن نايف عن ولاية العهد في حزيران الماضي، في خطوة لم تحرك لها الولايات المتحدة ساكناً، على الرغم من التعاون الطويل ما بين المسؤولين الأمنيين الأميركيين وابن نايف والخدمات التي قدمها الأخير للولايات المتحدة.
في تفاوضه مع الإدارة الأميركية على مستقبل السعودية، استخدم ابن سلمان بحنكة العديد من الأوراق: كصفقات السلاح والنفط، والعطاءات اللازمة لتنفيذ برنامجه الطموح «رؤية 2030»، فضلاً عن الأزمة التي صممها بشأن دولة قطر، وتطوير علاقة بلاده مع روسيا، وأخيراً، الانخراط في إستراتيجية ترامب المزدوجة ضد إيران، ولإرساء «سلام خليجي إسرائيلي» وللمستقبل، تعلم ابن سلمان أن واحدة من أقوى أوراقه للضغط على النظام الدولي، ستكون التلويح باستهداف استقرار إحدى الدول الصغرى، مثلاً قطر، في الخليج العربي.
اللافت أن ابن سلمان قرر حسم المواجهة أولاً مع ابن نايف، أي القوة الأكبر في السعودية بعد القصر الملكي، قبل أن يعمد إلى إنهاء القوة المتبقية حول الأمير متعب، وتقليم أظافر ما تبقى من أصوات معارضة له في الأسرة المالكة، في ضربة مزدوجة مطلع هذا الأسبوع، واللافت أيضا أنه وفي صباح اليوم الذي شهد «مذبحة المماليك» السعودية، تيمناً بما فعله الوالي محمد علي باشا بأمراء المماليك في مصر إبان القرن التاسع عشر، غرد ترامب داعياً الرياض إلى طرح أسهم شركة «آرامكو» للاكتتاب في بورصة نيويورك.
في تنفيذه لمخططه، لم يتقيد ابن سلمان بالكثير من الأصول والقواعد القبلية المتبعة في التعامل داخل السعودية وفي علاقاتها مع الدول الخليجية، وربما كان ذلك مصدراً لتفوقه على أقرانه ممن التزموا بتلك القواعد والأصول، ويبدو أن إستراتيجية ابن سلمان وأدواته تنتمي إلى عالم السياسة الواقعية، بينما تتحدر أدوات نظرائه وأساليبهم من التقاليد المشتركة لقبائل الخليج وقيمهم التوافقية، وإذا ما قدر لخطوته الأخيرة الجريئة أن تنجح، وهي كذلك حتى الآن، فهي ستعني نهاية النظام الراهن، وولادة آخر، ليس فقط في السعودية نفسها، بل ما بين دول الخليج العربي أيضاً، نظام يبنى على القوة العارية وحدها.