السيادة والحكم
| د. نبيل طعمة
العالم يتغيّر، فأين نحن من هذا التغيير، وأيضاً من لعبة المصالح بين الكبار؟ وضمن الإقليم تفاهمات أميركية روسية، روسية فرنسية، روسية إيرانية، تركية روسية، تجري تحت الطاولة وفوقها، تحددها الاحتياجات المتبادلة رغم جميع التناقضات القائمة فيما بينها، من خلال أشكال الحكم والإدارة والمسار والتطبيق، كما أنَّ الإستراتيجيات لكل منها مركَّبة ومعقَّدة، حيث تظهر تكاملات وانفصالات واختلافات في المنح والتأييد، والابتعاد والإبعاد، والإبقاء والتقريب، ولا نستثني الدور الإسرائيلي في الإقليم الذي يبتزُّ من خلاله الجميع، وبصلف قلّ نظيره، فهو المستفيد الأكبر من كل ما يحصل، يعزز وجوده، وتجري كثرة العرب وراءه، بغاية التطبيع.
ما يظهر لنا أنَّ الجميع موجود في مركز الصراع، يتصارع لا من أجل حل يفيد سورية شعباً وجغرافية وقيادة والمنطقة برمتها، بل يسعى كل منفرداً لإثبات ذاته، فالروسي يسعى لانتزاع اعتراف دولي نهائي بأنه قوة عظمى، وقطب آخر أمام الأمريكي، وبأنه قادر على زعزعة النظام العالمي وإعادة تركيبه، وهذا نتاج نجاح الثبات السوري، والأمريكي يريد تأكيد أنه القوة المطلقة والقطب الأوحد، وأنَّ على الجميع الالتزام بما يمليه، والانضواء تحت أجنحته، الإيراني يستعيد نشوة الأمة التاريخية، غايته حمايتها وحماية ما أنجزه عبر ثورته الإسلامية من خلال إنشاء الروابط القوية في محيطه فكرياً وعسكرياً، وأنه قوة إقليمية قادرة على ضبط التناقضات في كامل الإقليم، الفرنسي يعتبر ذاته الأمّ الرؤوم ماضياً وحاضراً لسورية ولبنان، الإنكليزي محنَّك سياسي، يقدم المشورة السياسية، ويأخذ حصته من دون عناء، وبأقل الخسائر، ومستشاروه موجودون لدى الجميع، التركي وأطماعه وتلاعباته بين جميع الأقطاب وسعيه الدؤوب ليكون قوة إقليمية ضاربة فيه، وأحلامه السلطانية لا تخفى على أحد، الكل موجود، والكل يقترح، فهذا يريد سورية واحدة، وذاك يطرح سورية اتحادية، وآخر ينادي بسورية المفيدة، ويستمع السوريون إلى سورية الممكنة.
سنواتٌ عجافٌ تمرُّ على هذه الجغرافيا، وشعبها وقيادتها والصراع موجود ومستمر، لم تتوقف تغذيته للحظة رغم ما قدمه ويقدمه هذا الشعب من تضحيات هائلة، لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها، إذاً كل له أسبابه وأهدافه ومصالحه التي أظهرت للجميع عمق الخلافات حول إنجاز حل.
أين العرب من كل ما يجري في سورية؟ ومعها الكل ينتظر، حتى الخليج الذي أخذ ينتابه الاحتراب الداخلي، وبوجه التحديد مع قطر التي بدأت تكشف حجم المؤامرة التي صيغت على سورية، وحبكت مع مركزه السعودي، ومن لفّ لفه، استلام الأوامر من مشغليهم، يبدون الآن كمن لا حول ولا قوة له سوى، ادفع، امنع، اشترِ، شارك أو ابتعد، استنكر، أيّد، اتهم، تآمر مع هذا أو ذاك، تحالف مع من تريد شرط أن تكون نتائجه لنا، معتبراً أنَّ عدوه الرئيس هو إيران وحزب الله.
اقرؤوا المشهد في لبنان، فشلت أدواته، وقبل أن تنكشف يسحب رئيس وزرائه، ويفرض عليه إعلان العداوة جهاراً نهاراً، ومن أين؟ من الرياض لتيار المقاومة وإيران، ناهيك عن أهدافه الواضحة وهي تدمير سورية واليمن والعراق، وإزاحة الحكم الوطني عنها، وفرط عقد سيادتها، يعملون بكل الوسائل للدفع بأمريكا للحدّ من النفوذ الإيراني وقصّ أذرعه في العراق واليمن وسورية ولبنان، ويدعمون التركي المناور اللعوب لزيادة نفوذه في الشمال السوري، كي تعود وتفاوض عليه مقابل الإيراني، إضافة لاستخدام الكرد أدوات تفاوض مع الروسي، وخاصة بعد فشل مشروع استقلالهم في العراق، وتعميق حضور مناطق خفض التوتر في الجنوب، وفي الشمال مصير الرقة والجزيرة السورية.
جنيف تنتهي، تستمر أستانة، تبدأ، تنتهي، ليبدأ مؤتمر للشعوب السورية وحوار الشعب السوري، يدعى إليه خليط شعبوي بين مؤيد ومعارض، الجميع يتموضع عبر بسط أقدامه وأدواته وقواعده، عدنا لنشهد سايكس بيكو جديداً، المؤيد في حينه سراً من وزير خارجية السوفييت سازونوف، وبعد مئة عام عبر كيري لافروف وتيليرسون، لافروف يخصُّ سورية فقط، ومعه نجد أنَّ مئة عام أيضاً على وعد بلفور، يمرُّ من العالم بصمت، لا تحييه سوى القوى المقاومة من الأمة، وعلى رأسها سورية، هل يعقل أن يجري كل هذا على مرأى ومسمع منا نحن السوريين؟ وهل العالم يتغير من أجلنا؟ أم إنَّ علينا أن نتغير نحن؟ أجل ذابت الدولة الكرتونية وتفككت، طبعاً أقصد داعش، في الرمال السورية فماذا بعد؟ النصرة وباقي المسميات من يحميها ولماذا؟
انقسامات سياسية عالمية أدت بالجميع لإظهار عدم جدية إنقاذ سورية، والسوريون وحدهم يملكون قوةً تتيح لهم من بين كل هذه التناقضات، أن يغيروا كل هذا، إن توافرت الإرادة لدى الآخرين، وأن يعيدوا خلق سياستهم واقتصادهم ومجتمعهم وجيشهم بالمنطق الوطني لمصلحة الأكثرية الوطنية التي تدير شؤون الوطن، وتحكمه بالوعي والحكمة بعد كل ما شهدوه من مآسي الحرب وقسوتها، وإخضاعهم إلى سجالات عقيمة وزائفة، تحول أنظارهم إلى صغائر الأمور، وتوهانهم فيها يفضي إلى إحداث هويات تشق الهوية السورية الواحدة، وللأسف وبسبب انحدار الوعي عند المشغلين نجد أن هناك من يقبل ويشجع ويوافق.
أوَلم نستفق بعد أن جُرّبت جميع أنواع الأسلحة التقليدية وغيرها، التي تحولنا من خلالها إلى ميادين وحقول تجارب للسياسات والعقوبات وغسل الأموال وأمراء حرب وتجار أزمات.
هلا تفكرنا نحن السوريين بأنَّ اصطياد بلدنا يتم عبر محاولات فصل السيادة عن الحكم، حيث مازال الهدف الرئيس لهم يمثل هدم عنواننا، وأنَّ انهيار أحدهما يعني انهيار الوطن، لذلك أجدني أدعوكم للتمسك بهذه العلاقة المهمة والسعي لفهمها، وإدراك ما تحمله من وطنية بعيداً عن كل محاولات الفصل والتفصيل بينهما ولهما، لأنّهما يجسدان الوطن الواحد المتوحد المشيّد من التنوع والتكامل والتجانس، يحمل علماً واحداً وساريةً واحدةً مغروسةً في وطن واحد، وإسقاطه على مجريات الأمور في هذا الوطن يحتاج الكثير من توخي الدقة في التحليل، بعد فهم اتساع المصالح الدولية التي مررنا على بعض منها، والبحث عن إعادة الاستقرار لا يتم بتبسيط الأمور، إنما بتعميق فهم تحويلها من معجزات إلى واقع، فاللعبة جدُّ معقدة، وحساباتها اللامرئية أبعد من واقعنا، فهل نستطيع فهم كل ذلك أمام ألغاز الحلول وعدم الوضوح الظاهر من سياسات الجميع، وأقصد اللاعبين والفاعلين على الأرض السورية. مؤكدٌ أنَّ في جوهر الحاكم حاكماً قدر على فهم كل ذلك بثقة وثبات، وتعامل معه بعد أن فكك كثيراً من تلك الألغاز مبتعداً عن جميع الأشراك التي نصبت، وبذلك كان كما لم يكن أي حاكم.
السيادة والحكم معادلة كيميائية، نتائجها تنعكس إيجاباً دائماً على وطن وشعب، بنودها وحدة الشعب والوطن والإيمان بالعروبة، ولغتها التمسك بالصمود والتصدي لكامل قوى العدوان من أي حدب وصوب عبر استخدام شعار المقاومة، وتجسيده واقعاً وعلى الجبهات الداخلية والخارجية كافة، والكفاح المستمر من أجل النهوض من التخلف وبناء وطن وشعب يمتلك العزة، ويكلل جباهه الفخار، ومن يؤمن بهذه النتائج فهو قادر على حسم أعتى المعارك، لأنَّ النصر يحسم بالمعاني الإستراتيجية ممن يملك الإرادة والقرار والسيادة، ويشعر أنه بمفرده أمة، على الرغم من محاولات التشويش، أو الاختراق، أو التأخّر، إلا أنَّ الوصول إليه حقيقة واقعة.