عن الجوع وسرّ الجوع
| إسماعيل مروة
عن أي جوع يتحدث المرء؟ عن الجوع الحقيقي الذي يسببه الفقر، الذي قال فيه الإمام علي كرم الله وجهه: لو كان الفقر رجلاً لقتلته؟! أم عن الذي قال ابن النديم مخاطباً من يقع تحت ظلمه: عجبت لمن لا يشق صدور ظالميه؟ عن هذا أم ذاك؟ الفقر أمر يمكن أن يتم تجاوزه بالعمل والجهد، ويمكن للفقير أن يكتفي ويتعفف، لا أن يصبح غنياً، ويصل إلى ذلك بالعمل والجهد.. لماذا تصرّ الأيديولوجيات كلها على خلق نوع من النزاع بين الفقير والغني؟ وعندما يحصل النزاع لابد أن الغني من سينتصر، وسيذهب الفقير ضحية لفقره وسوء تقدير الأيديولوجيا التي دفعته إلى المواجهة، وهو لا يدري أن زعماء أيديولوجيته يستفيدون من صراعه مع الغني، وربما انضموا على حسابه إلى نادي الأغنياء..!
لماذا أصرّت الأيديولوجيات على زرع فكرة النقمة في نفوس الفقراء، وهي تعلم أنهم سيبقون الضحايا؟ وربما وهذا أعمق أثراً وتأثيراً قد يتحول هذا الناقم، ولا أقول الفقير إلى متحكم وسلطة، عندها لن يتذكر إلا جوعه وفقره، ولن يتخلى عن إفقار الكون كله، ولا يدري أن والده ووالدته كانا في منتهى السعادة، ويتذكر أنه يريد الانتقام لهما!! فلا هو ينتمي إليهما، ولا هو ينتمي إلى الإنسان مطلقاً، لأنه معبأ بالنظريات الأيديولوجية التي تجعله ضد الكون!
في رحلتي التي جاوزت أربعة عقود مع الناس وبينهم رأيت العجب، فأغلبية هؤلاء الذين رأيتهم وقد غيروا جلودهم هم الأكثر عهراً، وهم الأكثر اعتداء على المرأة، وهم الذين لا ينتقون إلا الحرائر لإثبات تفوقهم! وهم الذين ينظرون إلى أحذيتهم ولمعانها! أقسم إنني منذ أقل من شهرين التقيت أحدهم وهو قادم من السفر، فقال للجالسين: انظروا اشتريت هذا الحذاء بكذا.. وذكر مبلغاً يكفي لإعالة أسرة لشهرين! وهذا الذي يتحدث شخصية اعتبارية تفتح لها الأبواب، ويتحدث من رأس أنفه، ويبيع جالسيه القيم والمثل، ويطلب منهم أن يكونوا أصحاب مبادئ!
أظن أن هذا وأمثاله أمضى سحابة عمره الأول حافياً، ولكنه بدل أن يلبس ويبحث عن الحفاة ليلبسهم، جلس يباهي الأغنياء بأن حذاءه أغلى من أحذيتهم.. هذا الذي قضى عمره يلبس البالة والرخيص صار اليوم منافساً للأغنياء على أهم الماركات، وكل ذلك بتأثير من المبادئ والأيديولوجيات التي بقيت في ذهنه ليعظنا بها، وغادرت حياته ليكون أقصى همه أن يلبس حذاء لامعاً من الماركات العالمية!
إنه الجوع أيها السادة لا الفقر..
الفقير لا يتجبر لذلك أراد الإمام علي أن يقتل الفقر، لأنه يقهر صاحب كرامة، يقهر إنساناً يشعر بالآخر، أما الجوع فشيء آخر، الجوع من عناه ابن النديم بالظلم، فالجائع ليس فقيراً، وإنما الجائع الذي لا يشبع ولا يشبعه شيء!
أما التقينا بجائع وهو يملك المليارات؟
أما التقينا بجائع في موقع المسؤولية وينظر إلى ليرات؟
أما التقينا بجائع ساوم كل امرأة على شرفها، وكأنه بذلك يصبح عزيزاً؟
الجوع شيء آخر، قد يكون في الأغنياء، لكنه أبدأ لا يكون في الفقراء، فالفقر كفاف، والغنى جوع للمزيد، فمن جرَّب الاكتناز يصبح جائعاً للمزيد، ومن يباه بحذاء أو بطقم أو بسيجار أو مشروب فلن يشبع ما دامت الحياة..!
والمشكلة الحقيقية أن الأيديولوجيات لم تفرز فقراء لينصفوا الفقراء، بل أفرزت في كثير من الأحيان عدداً لا يحصى من الجياع الذين يلتهمون كل ما لهم، ويلتهمون ما هو للآخرين، وربما التهموا باطن الأرض وقبة السماء!!
الجائع إن تسيد مشكلة، وهي أكبر مشكلة يمكن أن تحصل في حياة الشعوب، أما الغني الأصيل فإنه يدعى ابن عائلة، وهذا كريم، والفقير الأصيل يدعى عفيفاً، وهذا كريم، وبكليهما تكتمل دورة الحياة، وإن كنا نعدّ وجود ظلم ما في قوانين الحياة كما يراها الفلاسفة الذين نقرأ لهم.
الجوع للمال لا ينتهي عند جائع.
والجوع للعهر لا حدود له عند جائع.
والجوع للجاه كارثة الكون عند جائع.
وكل ما يجري على الأرض العربية وفي سورية يظهر أن الزمن أعطى دورته للجياع، فهذا يتحكم ويفعل، وذاك يمتطي السيارات ويصرف بلا حساب، وذاك يفرش الموائد التي لا يدركها النظر، وآخر يستعبد الناس ويسترقهم، وكل ذلك لأنه جائع لكل شيء، ويريد استغلال وجوده في وجاهة أو مكانة ليشبع.
وحده ابن العائلة
وحده الفقير العفيف
وحدهما يرفعان رجحان كفة الوطن، وما عدا ذلك جوع لا ينتهي..
سمعت أحدهم يقول: كلها مدة وأُعفى، عليّ تأمين نفسي! فهو شخص عاطل تافه لم يؤمن نفسه على الأقل بسلاح العلم والكفاءة، ولا يملك قدرة على البقاء لذلك يريد إشباع جوعه! لو لم يكن في هذه المكانة فهل بإمكانه أن يحصل على ما حصل عليه؟!
كتبت في مرات عديدة أن أهم سبب من أسباب حماية سورية أن المواطن العادي، الغني ابن العائلة، والفقير العفيف، كلاهما اكتشف خيوط اللعبة، فأغلب الذين يدافعون عن السوري من منظارهم هم الجزء الأسوأ في حياتنا السابقة عندما كانوا جزءاً من النظام..! فهذا الذي جاء ليسكن في غرفة جماعية في الشعلان أو المهاجرين ملك القصور والأموال والشهادات المشتراة قبل أن يبكي على الشعب السوري.. هل تريدون أسماء؟! لا داعي فالجميع يعرفون هذه الشخصيات، ويعرفون آليات صناعتها، لذلك بقيت سورية، ولذلك تمسكت بأمل رئيسها وجيشها للوصول إلى شاطئ الأمان، متجاوزين أولئك، ومتجاوزين الذين يتاجرون بآلامهم في الداخل، سواء كانوا في مواقع تنفيذية، أم كانوا من تجار الأزمة، ويرفعون شعارات مزيفة!
هل سمعتم بمن وصل إلى موقع وهو جائع واكتفى ببيت ووسيلة نقل؟
إنه الجوع
والجائع فطرة، فمه لا يشبع، شهوته لا تشبع، عينه لا تشبع..!
تخيل معي أن هذا القدر من الجائعين رحل كيف ستكون سورية؟
لا أريد أن أتخيل العكس، فالأمل معقود بعزيمة السوري
وفي كل حال علينا أن ندرك خطورة الجوع.. الجوع يجعل حامله يقدم كأس الشراب لسيده، ولكنه ينقض عليه عندما تطول مخالبه.. وما أقسى صورة الجائع وهو يصول في الساحة محاولاً افتراس ما يلتقيه.
إنه الجوع.. ويكفينا أن نعرف من سرّه أنه جوع وافتراس.