الخلود، الحلم المستحيل، هل يصبح حقيقة؟…الموت.. بداية لحياة أكثر خلوداً حقيقة أم في الفن؟
ديالا غنطوس
الخلود حلم العظماء، رغبة الأقوياء، طموح الملوك، هو هاجس داعب رغبات العديد من الناس، بتخليد ذكراهم على هذه الأرض، منهم من ذهب أبعد من ذلك، فكان طموحه خلود الجسد، وهو ما يعد مستحيلاً، لكن الاستحالة لم تمنع المحاولات والأحلام، عقاقير ومستحضرات لخلود الجسد، كانت البدايات مع الفراعنة ومن سبقهم وتلاهم، للاحتفاظ برونق الجسد وألقه بعد أن تفارقه الروح، ومنهم من أدرك بُعد المنال، فعمل على تخليد ذاته بلوحة أو تمثال، عمل أو إنجاز، اكتشاف واختراع، فكانت أعمالهم أبقى، وكانت جهودهم العظيمة وإنجازاتهم أفضل تخليد لوجودهم على هذه الأرض والذي سيبقى حياً ببقاء إبداعهم.
بعيداً عن الروايات المتوارثة والأساطير المستنسخة بعضها من بعضٍ حول إمكانية الخلود الجسدي أو ديمومة الروح، لم يثبت أن أحداً تمكن من التغلب على الموت أو التحايل عليه، مع كثرة المحاولات وتعدد أساليبها، التي بدأت بحسب الاكتشافات منذ 5500 عام لدى قبيلة كانت تقطن جبال أكاكوس في جنوب الصحراء الليبية، وكانت تؤمن بعودة الحياة والروح لكل شخص مات صغيراً، فقاموا بتحنيط جسد الطفل «وان موهي جاج» الذي توفي بعمر السنتين ونصف السنة، ليكون بذلك أقدم مومياء مكتشفة بالتاريخ، وانتقلت بعدها فكرة التحنيط نحو مناطق حوض النيل لتصل إلى الفراعنة في مصر القديمة قبل 4000 عام، فأدخلوا الكثير من التعديل عليها حتى أصبح التحنيط علماً صرفاً يطبق لتخليد الآلهة، وقاموا بتشييد صروح وقبور فخمة لموتاهم حيث اعتقدوا أن الموت هو بداية الحياة الأخرى الخالدة، وفي سياق مشابه كانت أسطورة البطل السومري جلجامش (2750 ق. م) فقد كان أول من تملكه هاجس الخلود، ومضى في رحلة البحث عن عشب سحري يمنح الحياة الأبدية، لكنه عاد خالي الوفاض إلى مدينته، وأقنع نفسه بأن أسوار مدينته العظيمة هي خير عملٍ يفي بغرض تخليد اسمه إلى الأبد، وبمرور الأزمنة تطورت مفاهيم الخلود، إلى أن تبنتها لاحقاً الديانات وانتشرت الروايات التي تحدثنا عن طول الأعمار وتجدد الحياة وخلود الأرواح وبقائها في الدنيا لكي تعود وتبعث بعد حين.
تعددت القصص على مر الزمن، وتعدّت حدود المعقول في البحث عما يطيل العمر الذي داهمه الهرم لإبعاد شبح الشيخوخة عنه، إحدى تلك القصص ما روي عن الكونتيسة الهنغارية الدموية «إليزابيث باثوري» التي كانت تستحم كل يوم بدماء خادماتها اللواتي تمتلكهن، حيث كانت تتركهن معلقات فوق حوض الاستحمام بعد قطع الشرايين لينزفن حتى آخر قطرة دم بهن، ظناً منها أن للدماء مفعول السحر فتديم الشباب وتطيل العمر، ومثلها كانت الإسبانية «أنركيتا مارتي» التي اعتادت خطف الأطفال الفقراء من شوارع المدينة بهدف قتلهم واستخلاص الشحم من أجسادهم لتصنع منه وصفات سحرية تقضي على الشيخوخة كي تبيعها للسيدات من الطبقة النبيلة والراقية.
وقبل ذلك في فترة العصور الوسطى بأوروبا، انتشرت أسطورة «إكسير الحياة» الذي يمنح الشباب الدائم والخلود، وجرى البحث عنه فقام عدد من العلماء والباحثين بإجراء الاختبارات والتجارب للحصول على هذا العقار السحري، ومنذ ذاك الوقت لم تتوقف هذه البحوث، حيث وصلنا منذ حين قريب إلى ما يطلق عليه «الزئبق الأحمر» ذي الثمن الباهظ لما فيه من مفعول سحري كفيل بإطالة العمر. أما في وقتنا الحالي، فتجرى الأبحاث الدؤوبة في مجالات الهندسة الجينية والهرمون حول إطالة عمر الإنسان عن طريق التحكم بأسلوب عمل الجينات، وأخرى تعتمد على تكنولوجيا النانو Nanotechnology للتمكن من صنع روبوتات مجهرية تنتقل عبر الأوعية الدموية بهدف العثور على الفيروسات والقضاء عليها، كما وُجدت نظرية جديدة تدعى نسخ الذاكرة إلى الحاسب (Mind to Computer Uploading) يتم من خلالها نسخ دماغ الإنسان إلى حاسب أو رقاقة إلكترونية، وبعد موته يتم استعادة واستنساخ هذا الدماغ وتفريغ وتخزين ما به من خبرات وذاكرة في دماغ مولود جديد، وقد تمكن العلماء من تحقيق نجاحات في تجاربهم على الفئران، وفي حال تطبيق تلك التجارب على البشر فإننا نجد من يقول بإمكانية إطالة عمر الإنسان حتى 1000 عام، وصولاً إلى تحدي الموت نفسه.
وكنتيجة طبيعية للنظريات والفرضيات العلمية حول الحياة الدائمة والخلود، ظهرت أفلام الخيال العلمي التي استهوتها فكرة الخلود وعكست بعضاً مما يجول في بال الباحثين والعلماء، كان أحدها فيلم «المشهد الأخير The Final Cut» لروبن ويليامز ويتحدث عن إمكانية زرع رقاقات في الدماغ لتسجيل وحفظ الذاكرة بعد الموت، ويستغل بطل الفيلم هذه الطريقة ويتمكن من الاطلاع على حياة عملائه واكتشاف نقاط ضعفهم وأخطائهم السابقة فيوظفها لصالحه في العمل، في حين تطرقت أفلام أخرى لمسألة الخلود من دون الخوض بالإشكاليات العلمية، ومنها كان فيلم Death Becomes Her للممثل بروس ويلس، عن سيدتين تتنافسان على حب رجل واحد، وتتناولان عقاراً سحرياً لمنع الشيخوخة، لتكتشفا لاحقاً بأنهما أصبحتا خالدتين وأن حياتهما لن تعود كسابق عهدها مجدداً، وأيضاً فيلم Highlander حول رجلين خالدين يمتلكان مهارات المبارزة بالسيف، فيقتل أحدهما الآخر، وتنتقل المعركة إلى العصر الحديث في نيويورك، وهو المكان الذي سيتواجه فيه الخالدون الباقون على قيد الحياة، ومن تلك الأفلام نجد فيلم الينبوع The Fountain الذي دمج ما بين ثلاث قصص في ثلاث حقب زمنية تفصل بينها 500 سنة، ويتحدث عن ثلاثة رجال يسعون لتحقيق الخلود مع حبيباتهم من خلال بحثهم عن شجرة الحياة، ومن زاوية أخرى يأتي فيلم Forever Young لميل غيبسون، حيث يطلب الطيار دانييل من صديقه عام 1939 بأن يقوم بتجميده لمدة عام لكي لا يشاهد عذابات حبيبته التي تعرضت لحادثة أدخلتها في غيبوبة يتوقع استمرارها قرابة العام، لكن المفاجأة كانت بأنه أفاق من سباته عام 1992.
لطالما داعبت فكرة الحياة الأبدية مخيلة البشر، لكن بغض النظر عن الأساطير والروايات، النظريات العلمية والتكنولوجيا والتوقعات المستقبلية، لم نشهد حتى يومنا هذا أحداً تمكن من الانتصار على حتمية الموت، لكن أذكياءهم من اعترفوا بحدودهم البشرية، وفلحوا بتخليد ذاتهم وذكراهم بأعمال واختراعات كان لها أثر كبير وفضل على البشرية جمعاء، فكان منهم علماء مثل توماس أديسون مكتشف المصباح الكهربائي، وإسحق نيوتن باكتشافه للجاذبية، وأندريه ماري أمبير الذي خلد اسمه بمقياس شدة التيار الكهربائي، وآخرون خلدوا أنفسهم من خلال فنّهم وإبداعاتهم الخالدة، كالعبقري بيتهوفن بمؤلفاته الموسيقية، وليوناردو دافينشي بلوحاته ورائعته الموناليزا بما تحويه من ألغاز، وفولتير بأعماله الأدبية، وأفلاطون بفلسفته، وفريدريك نيتشه بحكمته وأشعاره، وغيرهم كانوا خير مثال على ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي:
«الناس صنفان موتى في حياتهم… وآخرون ببطن الأرض أحياء».