«أرابيسك أميركاني» يبين دور أميركا في صناعة ثورات الشارع العربي … أحمد بن سعادة: التقنيات الحديثة تشكل الأداة المثالية للطامحين في زعزعة الأنظمة
| سارة سلامة
لا شك أن منظر ملايين الناس الذين غصت بهم ساحات القاهرة وتونس وصنعاء والمنامة وهي تزحف رافعة شعارات الحرية والكرامة والعزة الوطنية، سيبقى في الذاكرة الفردية والجمعية للملايين العربية والعالمية التي أدهشتها وبهرتها هذه الحشود العظيمة غير المسبوقة.
وعلينا الاعتراف أن هذه المشاهد لم تكن متوقعة أبداً قبل بضعة أشهر فقط من حدوثها المدوي وغير المسبوق، حيث عكست تجليات الغضب المكبوت منذ سنين طويلة، ولكن كيف انطلقت شرارة هذه الأحداث العاصفة المدوية في هذه المدن والعواصم بشكل متزامن أو متتابع؟
صدر عن اتحاد الكتاب العرب كتاب بعنوان «أرابيسك أميركاني» لمؤلفه الأكاديمي الكندي من أصل جزائري أحمد بن سعادة، وترجمة وئام خلف الجراد، حيث تم إطلاقه في العاصمة الجزائرية في العام 2012، ويعتبر أول دراسة مدعومة بالوثائق الدامغة التي تتحدث عن الدور المشبوه الذي لعبته الولايات المتحدة الأميركية من خلال أجهزة مخابراتها وسفاراتها ومؤسساتها ومعاهدها ومنظماتها في تأجيج الشارع العربي بشتى الوسائل، وقد استمد معلوماته من عشرات أو ربما مئات الوثائق المهمة التي توضح دور أميركا بمختلف دوائرها ومؤسساتها ومعاهدها البحثية وفي مقدمها وكالة المخابرات المركزية الأميركية «سي أي أي» بتأجيج الاضطرابات في الشارع العربي بهدف إسقاط النظم الحاكمة.
يضم الكتاب ستة فصول تطرق فيها المؤلف أولاً إلى «الثورات الملونة قبل أن يستعرض دور المنظمات الأميركية في تصدير النموذج الديمقراطي الأميركي، ويركز على الحالة المصرية ومختلف الدول العربية الأخرى التي هزتها الاضطرابات مع إدراج قائمة طويلة تضم المنظمات الأهلية والمؤسسات والأفراد والتمويلات بكل دولة.
لا مكان لنظرية المؤامرة
ويقول المؤلف بن سعادة في مقدمة الكتاب: إن «كتابة عمل حول دور الولايات المتحدة الأميركية في إشعال الثورات العربية هو أمر مثير للإشكال لثلاثة أسباب هي، أنه قد يتم تصنيف الكاتب تحت إطار المعاداة الهذيانية للولايات الأميركية التي تنتهجها الرؤى المؤامراتية، كما أنه قد يبدو الكاتب بمظهر المعجب بالأنظمة (الاستبدادية)، والحكام المحتكرين للسلطة، وليس من المستحيل أن تتم معاداته من جانب ما يسمى بـ(الثورة النبيلة والمعظمة).
ويضيف: إننا «اعتدنا على إطلاق تسمية (نظرية المؤامرة) على كل ما لا يلائم ما تعمل وسائل الإعلام جاهدة على بثه ونشره، ومن هنا يؤكد الكاتب أن لا مكان لنظرية المؤامرة تلك في طيات كتابه، فالوقائع والإثباتات تؤكدها الوثائق التي استند إليها الكاتب في مؤلفه.
واستهلت الجراد في تقديمها للكتاب بمقولة لـ«تشوك نوكس»: «دائماً امتلك الخطة، وكن مستعداً، فلا شيء يحدث مصادفة»، وتتساءل فيما إذا لعبت المصادفة دوراً فعالاً في كتابة التاريخ العربي فانتقلت (الثورات) من مكان إلى آخر وبسرعة لا يمكن تصديقها؟ أو هل أثارت تلك (الثورات) (غيرة) الجماهير من بعضها، فأرادت أن تكون لها النهاية السعيدة ذاتها؟ مضيفة: إن «قلة قليلة من أبناء أمتنا كان لها بُعد نظر في هذه الأحداث المتسارعة، فآثرت التروي قبل الانصياع إلى رأي الجماعة، فعند هذه القلة، لا وجود للمصادفة في مضمار السياسة، وكل شيء يحدث في وقته المناسب تماماً كما خُطط له. ومؤلف الكتاب (أحمد بن سعادة) واحد من هذه القلة التي فضلت الاحتكام للمنطق قبل العواطف، والرجوع إلى الوثائق والتقارير للتأكد من براءة الغرب عموماً وأميركا خصوصاً من الدم العربي الذي يسيل يومياً في ساحات ما يسمى بـ(الربيع العربي).
خلق ضجيج إعلامي
ويقوم المؤلف باستعراض عملية التمويل الأميركية السرية وتدبير «الثورات الملونة» في أوروبا الشرقية والإطاحة بالأنظمة والحكومات من شباب موال للغرب، علماً أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية والبنتاغون قد لعبا دوراً ميدانياً في تأجيج هذه الحركات الانقلابية، فيما تعهدت منظمات أميركية أخرى بالتمويل.
وتحت عنوان «الثورات الملونة» تحدث سعادة عن الثورات التي قلبت المشهد السياسي لبلدان شرق أوروبا أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، على سبيل المثال: «صربيا عام 2000، وجورجيا عام 2003، وأوكرانيا عام 2004، وكازاخستان عام 2005، كل هذه الثورات التي نجحت نجاحاً مدوياً، تم التحضير لها على أساس تعبئة الشباب النشطاء المحليين الموالين للغرب والمتحمسين ومستخدمي الشبكة العنكبوتية غير الراضين عن أنظمتهم السياسية حينئذ.
وفي عنوان آخر حول (التقنيات الحديثة) يقول سعادة: إن «التقنيات الحديثة تشكل من دون أدنى شك الأداة المثالية للثوار الطامحين في زعزعة النظام، إذ تسمح في البداية بتناقل وتبادل المعلومات بسرعة فائقة، إضافة إلى أنها تسهل بشكل كبير تعبئة الأعداد الهائلة للأشخاص حول مشروع مشترك.
زيادة على ذلك، فإن كثرة القنوات والأدوات المتوافرة يمكن اللجوء إليها بسهولة لخلق ضجيج إعلامي حول تصرف مسيء للحرية، مباغت ومهين لنظام معين، بغية ذمه وتحقيره على الدوام، وإن التطور الظاهر للتقنيات المعلوماتية ولوسائل الاتصال (tic) وشعبيتها الواسعة بين مختلف فئات الشعب، حتى في البلدان النامية، قد خلقت أدوات ووسائل اتصال فعالة جداً.
ومن الأكثر شهرة لهذه الوسائل: غوغل، ويوتيوب، وتويتر، وفيسبوك، التي عملت شركات أميركية مرتبطة بالإدارة الأميركية بشكل حثيث على تطويرها.
على صفيح ساخن
وفي الفصل الخامس «العالم العربي على صفيح ساخن» يقول سعادة: المعدلات الكبيرة للبطالة، والنسبة العالية للشباب، وتحقير الناس، وديمقراطية شبه معدومة، وسوء معيشة وثروات غير موزعة بشكل عادل، وحقوق منتهكة، وغياب حريات التعبير، والهجرة المتزايدة، وفساد في جميع مجالات الحياة، وتهميش للمرأة، وقادة مسنون، وهجرة العقول.
بلغت الأمية 50 بالمئة من النساء العربيات، ومستويات تمويل الأبحاث في الجامعات العربية هي من بين الأضعف عالمياً، لم تتوقف الفجوة بين الشعب من جهة والسلطة من جهة أخرى عن الازدياد، والوقت لا يساعد بأي شيء، فقد تحولت إلى هوة واسعة، الفتيل الذي أشعل الشارع العربي كان آتياً من «سيدي بوزيد» وهي مدينة تونسية تمتد على مساحة 265 كيلومتراً مربعاً في الجنوب التونسي.
لا شيء يحصل مصادفة
وفي تحليل للإشكاليات الأخلاقية التي واجهت العديد من النشطاء المصريين عندما علموا أن الكتيبات التي سلمت لهم من السلطات الأميركية والتي تروج لأساليب اللاعنف كانت من إعداد المؤسسات والمعاهد البحثية الممولة مباشرة من وكالة المخابرات المركزية الأميركية – الـ«سي أي أي». يقول المؤلف تحت عنوان «عناصر تحليلية»: «لا شيء يحصل مصادفة في السياسة، فإذا ما وجدتم شيئاً ما فبإمكانكم الرهان على أنه قد خطط له ليكون كذلك».
هذا الاقتباس مناسب جداً للواقع السياسي، وهو يرجع للرئيس الأميركي السابق فرانكلين روزفلت، وينطبق جداً على الوسائل «الناعمة» لزعزعة استقرار الحكومات ضمن «الثورات الملونة»، واليوم ضمن ما هو شائع تسميته بـ«الربيع العربي»، دائماً تكون العفوية الظاهرة والجذابة للحركات الشعبية مصحوبة بحدث مفاجئ وطارئ.
ففي مقال نشر على أعمدة صحيفة «لوموند ديبلوماتيك»، كتب كل من «ريجيس جانتيه» و«لوران روي» أن: «هذه المظاهرات تحمل سمة العفوية في الظاهر فقط، ومن هنا تستمد قوتها، ومع ذلك، تم التخطيط لكل تفاصيلها تقريباً بشكل سابق، فتم الترتيب لبعض «المقادير» عن سابق تصور، وبعد عام كامل من التحضيرات بدت أكثر فاعلية من القنابل»، وعلى عكس ما يخطر ببالنا فإن هذه الكلمات ليس لها أي علاقة تذكر مع ثورات الشارع العربي، إذ اقتطعت من مقال كتب في كانون الثاني عام 2005، وكانت تقصد «الثورات الملونة» في أوروبا الشرقية وبعض دول الاتحاد السوفييتي السابق.