عن الفساد وسرّ الفساد
| إسماعيل مروة
تحول الفساد إلى عقيدة لدى طائفة كبيرة من المجتمعات في العالم، ومن ثم تحول الفساد إلى مؤسسات مشرعنة، وعلى مستوى أنظمة ودول وقارات، بل على مستوى العالم أجمع، فالفساد ثقافة عالمية، وقد تكون هذه الثقافة متفوقة على موتزرات وشكسبير، بل تفوقت ببراعة على كل الطبقات الاجتماعية التي عرفتها المجتمعات، فألغت ببراعة وحنكة وتدرج الطبقة المتوسطة الحامل الفكري والثقافي والسياسي لأي مجتمع من المجتمعات، فقد رأت ثقافة الفساد أن هذه الطبقة هي الحامي والحامل للمجتمع، وحدها الطبقة المتوسطة القادرة على القراءة والثقافة والموسيقا، وحدها القادرة على خلق تيارات فكرية، وأحزاب سياسية، وحدها لا تملك عقدة تجاه فوق أو تجاه تحت، وحتى يتمكن الفساد كان لابد من إنهاء وقتل هذه الطبقة التي تملك حق الرفض والقبول والاعتراض والخلق الجديد.. وتابعت ثقافة الفساد وعلى مستوى العالم القضاء على الطبقة العليا، فهذه الطبقة الراقية أو البورجوازية أو المالكة، أو ما شئت أن تطلق عليها من تسميات وفق توجهك الأيديولوجي أو العقدي، هذه الطبقة، وكثير منا يتداولون أسماء أسر تملك العالم، هذه الطبقة أدت دوراً مهماً في نشوء البلدان والاقتصادات المهمة، وعرفنا، حتى على المستوى السوري، الأثر الكبير الذي أدته البورجوازية الوطنية النبيلة في دعم الدول والصناعة والتجارة، وهناك عهود حملتها هذه البورجوازية الوطنية النبيلة، وتتسم بالإيجاب، على عكس ما يتم تروجيه ضد البورجوازية بالمفهوم العام والأيديولوجي، جاءت منظومة الفساد ببراعة لتنهي هذه الطبقة، وذلك باستلال النبل منها، وتحويلها إلى أداة شرهة، وبالتدريج تحولت المفهومات في هذه الطبقة، وتغير الأشخاص، وتغير المفهومات والأشخاص في طبقة مهمة ومؤثرة، حولاها من شريحة تحمل الخطط الكبرى والتوجه الوطني، إلى شريحة تحمل كل معاني الاقتناص والسرقة والنهب، ومن استطاع أن يهتك هذه الشريحة لا يعنه ما يقال فيه! وعلى مستوى عالمي صرنا نسمع بشخصيات وأسر ومؤسسات يطلق عليها جميعها تعبير الأغنياء الجدد، وقد مر على أغلبها أكثر من نصف قرن، ولا تزال تحمل صفة الجدد، والطريف أن هذه الطبقة المتشكلة لا تنتمي إلى البورجوازية، ولا تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، فمن الطبيعي أن يرتقي أحدهم من طبقة إلى أخرى بفعل العمل الدؤوب، لكن هذا الانتقال الغريب، أو الهبوط من عالم غير مرئي أدى وظيفتين في الوقت نفسه، أولاهما تفريغ البورجوازية من مفهومها ودورها، وثانيتهما زيادة الضغط على ما تبقى من طبقة وسطى، وزيادة حدّة قهر الطبقة الفقيرة، وتحويلها من طبقة عاملة قانعة إلى طبقة ناقمة.
وعلى مستوى الطبقة الدنيا، أو الطبقة الفقيرة العاملة، التي تحمل على عاتقها كل ما في المجتمع، وهي موضع تقدير واحترام وأغلبنا ينتمي إليها، فقد سلطت منظومة الفساد والغنى عليها ما أطلق عليه الإقطاع والبورجوازية، وتم التعامل مع هذه الطبقة وفق منظومة الفساد، وليس وفق منظومة العمل، أرأينا منذ متى تعمل منظومة الفساد؟! ونتيجة التخطيط الاجتماعي والاقتصادي الممنهج تحولت هذه الطبقة الفقيرة التي تحمل منظومة الأخلاق المجتمعية والقيم إلى اتجاهات، أول هذه الاتجاهات تخلى عن كل المنظومة القيمية، واستباح كل شيء، وتنازل عن كل شيء، وتحول من شخص يعطي النظافة إلى شخص يحمل أقذار العالم بروحه، وفي مجتمعاتنا العربية، وسورية تحديداً، نسمع عبارة: وجد كنزاً، باع شيئاً… وهكذا من تعابير لإيجاد مسوغات للفساد، ومسوغات لتصدّر المجالس، والطريف أن هؤلاء الذين لا يملكون أي مقوم، سوى التنازل عن القيم والأخلاق، تفتح لهم المجالس، ويتصدّرون، ويستمع إليهم، ويحصلون على ما يريدون وزيادة، والشواهد أمامنا أكثر من أن تحصى.. واتجاه آخر زاد فقره وألمه، ولم تفده قفزاته المتخيلة، فعاد أكثر ضعفاً، وأكثر سوءاً، وكل ما كسبه من محاولاته أنه خسر حصانته القيمية والمجتمعية والأخلاقية، وحتى الآن لم يرد أي حكم أخلاقي ديني، فالأمر الذي أتحدث عنه قيم اجتماعية لا علاقة لها بدين أو بمجتمع محدد.. وثالث اتجاهات الطبقة الفقيرة هو الذي تحول إلى ناقم غاضب، لا شيء يتمسك به، لا شيء يخسره، فمتى تسعد الطبقة الفانية؟ تحول هذا الاتجاه إلى اتجاه ضائع في إدمان ورقيق وما يتبع ذلك. خسر كل شيء، ولا شيء يدعوه إلى التمسك بالمنظومة المجتمعية، ومن هذا الجانب نشأت الطبقات المهمشة والفقيرة والغاضبة، التي لا يعنيها شيء، ولا تتمسك بشيء، ولا تحرص على مجتمع لم يلتفت إليها!
فإذا ما سأل أحدهم عن أسباب ما جرى في العالم أجمع، وفي المنطقة العربية على وجه التحديد، فإنه لابد أن يضيف إلى المؤامرات الخارجية للسيطرة على مقدرات البلدان هذا الواقع الاجتماعي المعقد، الذي تم العمل عليه لعقود طويلة، ليصبح المجتمع، أي مجتمع مستهدف، في وضع مأزوم لا يجتمع أبناء طبقاته على افتدائه والدفاع عنه وعن مكتسباتهم، لأنهم لا يملكون أي مكتسبات سوى القهر والتهميش؟ والغريب أن العواصف تعصف بالبلدان، والذين أثروا من الحرب والفساد وتجار الأزمات ازداد تغولهم على حساب الوطن وهذه الطبقات، وهم لا يعنيهم أي نوع من ردات الفعل، لأن ما جمعوه وتاجروا به أهم عندهم من المجتمع بتمامه! ولم يقم كثيرون في مواقع المسؤولية على أي عمل يمكن أن يستوعب هؤلاء وغضبهم، وربما اكتفى عدد منهم بتوصيف وتصنيف الناس حسب مصالحهم التي يمكن أن تحكمهم، لذلك ومع استمرار العواصف العربية، والفوضى التي رسمتها الولايات المتحدة الأميركية، بقيت الأزمات والمشكلات تتفاقم، بل المجتمعات تتفكك اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً وجغرافياً، والمتابع يجد أن أطراف الحروب والأزمات هم من يتحكم، وهم من يفرض ويرفض، والناس بطبقاتهم ليسوا أكثر من وقود لحرب مصالح مستعرة بين الدول الخارجية، والطبقات المنتفعة!
ولو نظر أحدنا من الشرق إلى الغرب، ومن دون استثناء فسيجد أن الفساد ثقافة للطبقات المتحكمة بالعالم، فمن أميركا إلى أوروبا إلى مجمل الدول، هناك ثقافة تكرس وهي ثقافة الإثراء التي اختمرت بفضل الشركات متعددة الجنسيات، والمافيات المالية العابرة للحدود، وهذا يمنحنا فرصة لإعادة النظر، فالفساد ليس عربياً أو داخلياً وحسب، بل الفساد هو ثقافة مطوبة، وقد لا يكون مغالياً من يردد أن الفساد أسلوب حياة مشرعن حتى من الطبقة الدينية، فهناك منظومات تقوم بالتسويغ والدفع به صعوداً، وبغطاء ديني وشرعي أحياناً، وذلك يبدأ من أصغر الأشياء إلى أعلاها، إلا إذا كنا لا نعد الشركات ذات الصبغة الدينية من حج وعمرة وزيارات شركات تجارة وفساد ومتاجرة بالعقيدة وأحلام البسطاء الذين يدورون على ذواتهم..! فكم من شخص لا علاقة له، وبفضل المؤسسة، ومن أفواج بسيطة صار من الأغنياء الأغنياء، ويباهي على التجار..؟ كم من شخص أعرفه يعيش على الصدقات، ومن أسباب الدين استطاع أن يتاجر بمشاعر الناس وصار من كبار الملاكين، بل بعضهم تحول إلى ضفة أخرى؟ قد ينكر أحدهم هذا الكلام، وأعطيه الدليل، فسورية منذ سنوات لا وجود للحجاج منها بصورة رسمية، ولكن هؤلاء الذين انغمسوا في الفساد المشرعن لم يتخلفوا عاماً عن الموسم، وهم يخرجون بطرائق شتى ويجمعون أفواجهم، ويعودون بالغنائم، ولا أحد يسأل كيف حدث هذا؟ حتى في المؤسسة الدينية تظهر الطبقات بين المشايخ والمطارنة والخوارنة، والجميع يعرف هذا الفرز، فهذا شيخ غير شكل، وذاك يمضي عمره في مهنته ولا يحصل على شيء! هل يتخيل أحدنا أنه في المؤسسة الدينية يوجد مفهوم الطبقات؟ نعم هناك رجال دين مهمشون انتفضوا على المؤسسة الدينية أو سيفعلون، والمؤسسة الدينية جزء من الدولة ونظامها، ومن هنا تأتي الخطورة، فلا مشكلة لو كانت المؤسسة الدينية بمعزل عن النظام السياسي، ولو كان لدينا أي نوع من الفصل بين الدولة والدين لكان ما يحدث في المؤسسة الدينية ترميم أفق وإعادة هيكلة، لكن التواشج المصلحي المادي بين المؤسسة الدينية والسياسية جعل أي هزة تصيب الدولة، وهذا ما جعل اللبوس الديني قادراً على الفعل والتحريك، ولا يظن أحد أنه قادر على التحكم بالمؤسسة الدينية واستغلالها، فهي أكبر من أي محاولة، وهي القادرة على تسخير كل شيء لها، وهي التي تضحي بالشريك متى شاءت.
في مسرحية «فخر الدين» تسأل فيروز أباها عن الأمير فخر الدين الذي يحبونه، فيقول لها: الأمير مشغول بالأمور الكبيرة، وقد لا يعنيه أو لا يصله، أو يجب ألا ينشغل بأمر عسكري..!
لكن «الكجك» ودوائر الفساد هي التي اتخذت قرارات لا تصب في مصلحة العسكري وأسرته، والوطن وما يحتاجه… إنه الفساد المشرعن المقونن، وما أدراك ما الفساد وما سره؟