ثقافة وفن

المطبخ الشامي… من السلف إلى الخلف … الكثير لا يزالون يتلذذون بمآكل لم يبرح طعمها فمهم فيحن إليها بأحاسيس تربط بين الماضي والحاضر

| منير كيال

كان من أهم ما توصي به الأم ابنتها لدى زفها إلى عرسها، أن تُعنى بأمور لا غنى عنها، حتى تكفل حياة زوجية هانئة، وتجعل زوجها يجد في بيتها الواحة التي يركن إليها، ويأنس بها بعد يوم شاق من العمل.
وتتلخص هذه الأمور باهتمام الزوجة بمظهرها وهندامها وإشراقة وجهها، لدى أوبة الزوج إلى بيته، وبالتالي اهتمام الزوجة بكل ما يرضي الزوج من حيث حسن استقباله لدى عودته من العمل بكلام معسول ولهفة بالغة، وكذلك ضرورة اهتمامها بما يدخل إلى معدته من الطعام وأناقتها في تقديم هذا الطعام وتزويقه، فلا تجعل الزوج يسكب طعامه من الطنجرة التي يُطهى بها الطعام ذلك أن الطعام الذي يتناوله المرء ليس مجرّد حشو مصران بل إنه متعة قبل أن يكون غذاء.

زبدية صيني
وإذا كنا نجد أن كثيراً من سيدات هذه الأيام ينفتحن على ما تقدمه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة عما يتعلق بأصناف الطعام من المآكل والوجبات السريعة الجاهزة، فإن آخرين لا يزالون يتلذذ الواحد منهم بمآكل لم يبرح طعمها فمه، فيحن إليها على الدوام، بأحاسيس تربط بين الماضي والحاضر.. وهذا بالطبع يعيدنا إلى ما كانت عليه سيدة البيت الدمشقي في أواسط القرن المنصرم (العشرين) من اهتمام ببيتها وخاصة طعام الأسرة.
فقد كانت الواحدة منهن مثل الزبدية الصيني، من أينما ترن عليها تستجيب، فهي بارعة بالنظافة والأطافة، فضلاً عن جميع ما يتصل بإعداد أطايب الطعام من مأكل ومشرب وهذا ما جعل المطبخ الشامي حافلاً بما لذّ وطاب من الأطعمة، بالاعتماد على ما تقدمه الأرض من خيرات غذائية محكومة بأحوال الطقس من حرّ وقرّ، وطبيعة للمسكن، ذلك أن الظروف المتعلقة بأحوال الطقس على وجه الخصوص، لا تساعد على توفير المحاصيل التي تدخل في إعداد طعام الإنسان، فكان لابد والحال هذه، أن تعمد سيدة البيت إلى ضمان توفير ذلك بوسائل متعددة، لتلبية حاجات الأسرة على مدى أيام الحول، ونذكر على سبيل المثال، أن البرغل الذي يدخل بالعديد من المآكل، كان على سيدة البيت القيام بتوفيره بإحضار القمح وتنقيته ثم سلقه، وطحنه بعد تجفيفه ومن ثم فرزه إلى برغل ناعم وآخر خشن لأن كلاً من النوعين له مآكل خاصة لا تدخل في مجال النوع الآخر كما كان على سيدة البيت توفير الأصناف الأخرى من المواد التي تدخل في إعداد الطعام وذلك بأسلوب التجفيف أو الشرش بالماء والملح لاستخدامه وقت الحاجة إليه.

بيت المونة
وقد يكون الادخار بالحفظ بما يعرف بالكندوش أو الكوارة التي كانت تختص بحفظ اللحم بعد فرمه وقليه مع الملح وحفظه بالكوارة للاستفادة من ذلك حين استحالة أو صعوبة الحصول على اللحم الطازج، وقد عُرف ذلك اللحم المحفوظ بالكوارة باسم القاورما.
ومع انتشار ما يعرف باسم بيت المونة، كنت ترى سيدة البيت تُعنى عناية بالغة بالمكان المخصص بحفظ مؤونة السنة من حيث النظافة والطهارة وتفقد كل نوع من حين لآخر، وبالطبع فإن استخدام الملح كان من الضرورة بمكان في حفظ هذه المواد.. وخاصة الجافة منها، ويكون ذلك الحفظ بأوانٍ محكمة الإغلاق من الخشب أو التنك أو القطرميزات.
وبالطبع فإن سيدة البيت تعمد إلى أخذ كمية من المآكل التي تدخل في الاستعمال اليومي كالزيتون وأنواع الجبن والمخلل وتضعها بأوانٍ خاصة تحفظ بما يعرف بالنملية، فإذا استهلك نوع منها، فإن سيدة البيت تعاود تعويضه مما يدخر بيت المونة، وفي جميع الأحوال فإن سيدة البيت لا تسمح بامتداد أي يد غير نظيفة إلى إحدى تلك الأواني أكان ذلك في بيت المونة أم في النملية.
وإذا فاض قليل أو كثير من الطعام المطهو فإنه كان يحفظ بالنملية إلى اليوم التالي، وقد يحفظ بوضعه تحت ما يعرف بالمكبة، التي كان أشبه بسلة واسعة الفتحة تُطب على الطعام الفائض عن الوجبة إلى اليوم التالي، وذلك بحفظه من الهررة والزواحف الأخرى، كما قد يحفظ ذلك الطعام الفائض بوضعه على ما يعرف بالكبك الذي يُدلى بحبل أو نحوه من درابزين الطابق العلوي من البيت إلى اليوم التالي فيحفظ ذلك الطعام من كل مكروه، ولعل مرد ضرورة قيام سيدة البيت بجميع هذه الأمور، أن الأسرة لم تكن تعرف الاستجرار لحوائج الطبخ من البقالية لأن ذلك أمر غير مرغوب فيه، وفيه مساس بمكانة الأسرة، وبالتالي فإن مشاهدة المرء وقد حمل بيديه قطعة من الجبن أو بعض اللبن المصفى (اللبنة) أو بضعة أرغفة ابتاعها من الفرن، من الأمور المستهجنة في أربعينيات القرن المنصرم (العشرين) لما في ذلك من دليل على ضيق حال هذه الأسرة، حتى قيل في ذلك المثال الشعبي: «الخبّز الليّن فقر مبيّن».
لذلك توجب على ربة البيت القيام بعجن الطحن اللازم للخبز وتقوم بخبزه على الصاج، أو بالتنور إذا توافر ذلك التنور لدى الأسرة.

المطبخ الشامي
وقد قال ذلك المثل عن حال الأسرة في كوانين ما يفيد بضرورة عدم نسيانه الجوار الذين لا تتوافر لديهم السيولة اللازمة لتبعات الطعام، فقال هذا المثل بكانون كِنّ وعالفقير حِنّ.
وكنت ترى سيدة البيت لدى قيامها بإعداد طعام الأسرة حريصة كل الحرص على متابعة ذلك لحظة بلحظة بإطار من النظافة المطلقة لذلك كانوا يصفون تلك السيدة بأنها ذات نفس طيب، أو نفسها طيب، ذلك أنه ليس المهم أن تضع سيدة البيت الخضر أو اللحوم على النار فحسب وإنما مراعاة ذلك بالملاحظة التامة والعناية الكاملة لحظة بلحظة حتى تنضج وتتأكد من طعمها وما قد يلزمها من ملح وبهارات أو نحو ذلك لتكون قابلة أو جاهزة للتقديم على المائدة (السفرة).
ومن جهة أخرى، لابد من القول وقد توافر في هذه الأيام لدى البقاليات الكثير من المواد الغذائية، ولم يعد يتطلب من سيدة البيت إعدادها أو تموينها لوقت الحاجة فإن من الضرورة بمكان أن تحافظ سيدة البيت على هوية مآكل المطبخ الشامي من العبث والتشويه، وإطلاق أسماء على مآكل ليس لها صلة بمآكل المطبخ الشامي التي تحمل هذه الأسماء.
ولعلي مضطر إلى القول إن العديد من سيدات بيوت هذه الأيام قد لا يعرفن من هذه المآكل أكثر من أسمائها، وخاصة ما كان يتعلق بالقشة والقبوات، وكثير من مآكل البرغل من أنواع الكبب المشوية والمقلية والممدودة بالصينية، وما يعرف بالكبة حميص، وكذلك ما يعرف بالكبة المقلية التي يطلق عليها البعض اسم صرّة بنت الملك، لكونها من خمسة أقراص بداخل بعضها، الأول منها وهو الأصغر محشو باللحم المفروم والبصل المقلي المفروم مع بعض المكسرات، وبين القرص والقرص الذي تليه حشوة القرص الأول نفسها، فإذا قدمت بعد أن تقطع إلى أربعة أقسام تبدو وقد ملأت الإناء كالوردة أو الصرة المفتوحة.. المحشوة بطبقات من اللحم والبصل المفروم المقلي والمكسرات.
كما يمكن القول إن الكثير من تلك السيدات قد لا يعرفن أو لم يسمعن بكثير من المآكل الشامية التي تفخر بها المائدة الدمشقية، ومن ذلك ما يعرف بالمشمشية وهي من طبخة الكبة اللبنية مضاف إليها طبخة الفولية وكذلك طبخة الباشا وعساكره التي من الكبة اللبنية مع طبخة الشيشبرك.. وقس على ذلك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن