المشهد الإقليمي عشية التصعيد السعودي الأخير
| عبد المنعم علي عيسى
تصاعد التوتر الإقليمي، المتصاعد أصلا، عبر ذلك التكثيف الذي شهده يوم السادس من الجاري في الرياض، ففي ظهيرته تحدثت الرياض عن سقوط صاروخ بالستي يمني على مطار الملك خالد، وفي ليلته التي كانت ساخنة جدا، أعلن رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري استقالته المدوية وغير المشهودة، بالتزامن مع حملة اعتقالات طالت العشرات من الأمراء والوزراء والمسؤولين السابقين والحاليين.
كان من الواضح أن التعاطي السعودي مع حدث الظهيرة يريد أن يقول: إن الرياض قد باتت جاهزة للعب دور رأس الحربة في الحرب التي أعلنتها واشنطن على طهران قبيل أسابيع، ظهر ذلك من خلال تصريح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الذي قال: إن الصاروخ الذي أطلقه «الحوثيون» على الرياض قد أطلق بأيدي حزب اللـه وهو إيراني الصنع والمنشأ، ليخرج بعدها بساعات وزير الدولة الإماراتي أنور قرقاش ويضيف: إن خطر قيام «حزب اللـه اليمني» قد بات أمرا ماثلا أمامنا الآن.
فيما بعد ظهر وكأن كلمة السر قد أعطيت لانطلاق حملة إعلامية وسياسية عاصفة، وفي سياقها بدا وكأن المطلوب أن يدرك المتلقي بأن «عاصفة حزم» سعودية على لبنان باتت على الأبواب، ولإكساب تلك التهديدات بعض المصداقية، دعت وزارة الخارجية السعودية رعاياها لمغادرة لبنان وعدم التوجه إلى مطاراته من أي جهة كانت.
اللافت أن بعض التحليلات كانت قد ذهبت إلى حدود رسم معادلات القوة وقدرات الطرفين والمآلات المتوقعة لتلك الحرب، بل إن محللا مهما كان يرد على أولئك الذين يقولون إن حالة عدم التجاور ما بين لبنان والسعودية تحد من قدرات الأخيرة أو تعيق تحقيقها لأهدافها، فأردف بأن تلك الحالة إنما تمثل ميزة وليست سلبية فهي تمكن المملكة من استهداف مواقع حزب اللـه عبر سلاح الجو السعودي دون أن يتمكن الحزب من الرد عليها لعدم امتلاكه الأدوات اللازمة لذلك، وإذا ما كانت هذه الأفكار فعلا هي التي يتم تداولها في غرف صناعة القرارات السياسية في الرياض، فتلك كارثة فعلاً لأنه في ظل المناخات الإقليمية القائمة ووصولها حدود معركة «كسر العظم»، فإن حزب اللـه سيكون في مقدوره الرد على تلك الاعتداءات بعد مضي 24 ساعة وقد لا تزيد، ناهيك عن أن الدور التقليدي الذي مارسته وتمارسه السعودية في المنطقة، هو أقرب لأن يكون القيام بتهيئة مناخات الحرب وليس القيام بها، وهو ما كشفته وثائق حرب حزيران 1967 وتموز 2006 وحروب غزه 2008-2009، وفي هذا السياق لا يمكن القول إن حربها على اليمن تعتبر خروجا على ذلك الدور إذ لطالما اعتبرت الرياض، وفي الأمر ما يدعو إليه، أن ما يجري في اليمن هو شأن داخلي سعودي تماما كما أنه شأن داخلي يمني.
برزت في أتون تلك الحملة الكثير من الطروحات التي تجهد لتوسيع قاعدة المعادين لحزب اللـه، فقيل مثلا، هل يعقل أن نشهد استهداف الديار المقدسة ومن قوى إسلامية أيضاً، فاليهود لم يفعلوها؟ والغريب أن تلك التساؤلات لم تلق ردودا مناسبة ربما بفعل حساسيتها، ففي التعاطي مع المقدسات لا شيء مجانياً يمكن أن يقال، بمعنى أن كله سابق الدفع، وعلى الرغم من ذلك يمكن لنا القول إن الموانع التقليدية التي تردع المرء من استهداف المقدسات إنما تنمو أو تظل قائمة فقط في الحالات الطبيعية التي يعيشها الإنسان، وإذا ما انتفت تلك الحالات فإن الأمر في حينها يصبح محل أخذ ورد، ثم ماذا فعلت الرياض نفسها عندما اعتصم «جهيمان العتيبي» بالحرم المكي الشريف في العام 1980، ألم تستقدم قوات باكستانية وفرنسية لإنهاء ذلك التمرد؟ ثم ألم تستخدم تلك القوات شتى صنوف الأسلحة حتى الثقيلة منها، لتدك المسجد فوق مصليه الذين احتجزهم جهيمان وقد تجاوزوا المئة ألف؟ ومن ناحية أخرى هل يعني قول إن مكة والمدينة هي ديار مقدسة، وهي كذلك بالتأكيد، بالضرورة أن ديار اليمن والشام والعراق ولبنان هي ديار «نجسة»؟
مارست واشنطن دور صب الزيت على النار، عندما خرج قائد قوات التحالف من دبي جيفري هاريجان في العاشر من الجاري ليقول إن إيران هي من زودت «الحوثيين» بالصاروخ الذي أطلقوه على الرياض، وهو موقف ينسجم بالتأكيد مع إعلان واشنطن الحرب على طهران قبيل أسابيع على الرغم من أن ذلك الموقف لا يحظى بإجماع إدارة الرئيس دونالد ترامب ما يشكل مدعاة للعديد من التكهنات، ومع ذلك فإن ذلك الموقف يشير إلى أن الإستراتيجية التي ستتبعها واشنطن في مواجهة إيران ستقوم على استهداف الأذرع والتمددات لا العمق الإيراني أقله في المرحلة الراهنة، في حين بدت طهران تميل إلى التهدئة انطلاقا من المناخات الدولية التي تعمل واشنطن على تسميم الأجواء الإيرانية بها، ظهر ذلك بوضوح من خلال الكلمتين الأخيرتين اللتين ألقاهما أمين عام حزب اللـه حسن نصر اللـه، وكذا في مؤشر داخلي إيراني بالغ الدلالة فقد اتخذت وزارة الإرشاد الإيرانية في التاسع من الشهر الجاري قرارا بإغلاق جريدة «كيهان» المحافظة والمحسوبة على المرشد الإيراني نفسه، ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أن الجريدة السابقة الذكر كانت قد خرجت في اليوم التالي لحادثة إطلاق الصاروخ على الرياض بمانشيت عريض يقول «الصاروخ الثاني سيكون في دبي»، وفي القاهرة عمد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على تثبيت المسافة التي كان قد حددها مع الرياض منذ إطلاق الأخيرة لـ«عاصفة الحزم» ضد اليمن في آذار من العام 2015، وفي لقاء له مع وكالة «سي بي سي» الأميركية في الثامن من الجاري قال: إنه يعارض استهداف إيران وحزب اللـه عسكريا، صحيح أن ذلك الموقف يتماشى مع الإستراتيجية المصرية المعلنة التي تقول إن الجيش المصري لن يشارك في حرب إلا دفاعا عن حدود بلاده، إلا أنه من الجائز قراءته على أحد محملين اثنين: الأول هو أن القاهرة تعمل على ابتزاز دول الخليج عبر تثبيت المسافة سابقة الذكر، حيث سيكون لزاما على هذه الأخيرة «الدفع» إذا ما أرادت تقليص تلك المسافة، أو أنه يعبر فعلا عن موقف القيادة المصرية الحالية التي ترى أنها غير قادرة ولا ظروفها تسمح بالقيام إلا بما تقوم به راهنا.
في السياقات، تبدو النار وكأنها في أولها، وهي مرشحة لأن تستعر، دون أن يعني ذلك إمكان تعرض لبنان لعدوان سعودي، وما يدعو إلى ترجيح التصعيد هو أن القيادة السعودية الحالية تبدو وكأنها لم تدرك حتى الآن حجم المتغيرات الطارئة على الدور والثقل السعوديين بفعل تراكم الفشل السعودي من العراق إلى لبنان، وبفعل نار «جاستا» التي لم تخمد، وإنما باتت تحت الرماد نظرا لحالة الاحتياج التي اعترضت تطبيق برنامج ترامب الانتخابي، كل ذلك بالتزامن مع خزائن باتت شبه مكنوسة، إلا أن أخطر ما في الأمر هو أن الرياض تبدو كأنها لم يخطر في بالها سؤال مهم مفاده: ما الذي يغري الخارج، أياً يكن، للتدخل والنفاذ إلى الداخل الخليجي بما فيه السعودي؟ وهو سؤال بالغ الأهمية، جوابه أن الضعف وحده هو المسؤول عن توالد كل تلك المناخات التي تدعو إلى المزيد من الاختراقات في الوقت الذي قامت الرياض ببعثرة عشرات التريليونات التي كان بإمكانها بناء داخل متماسك قادر على إجبار الخارج غض بصره عنه.