الشرق السوري في التفكير الأميركي الإستراتيجي
| أنس وهيب الكردي
لم يعد سراً أن للوجود الأميركي في شرق سورية أهدافاً تتعدى هزيمة تنظيم داعش، وأقر الأميركيون بأنفسهم بما كان مجرد تكهنات عززتها مساعي واشنطن لتحصين هذا الوجود منذ إطلاق موسكو عمليتها العسكرية خريف العام 2015، لكن المعلن الأميركي يخفي وراءه العوامل الفعلية التي تشكل الإستراتيجية الأميركية حول شرق سورية.
الوظيفة السياسية المعلنة للوجود العسكري الأميركي في سورية باتت ضمان عدم عودة داعش، والتأكد من «بدء ظهور نتائج عملية جنيف»، كما بشر وزير الدفاع الأميركي جميس ماتيس، وهذا يعني أن واشنطن قررت المبازرة بالشرق السوري الغني بالموارد الغذائية والبترولية، ومصير المسألة الكردية في سورية، على طاولة جنيف، لتطبيق القرار 2254، وعينها بشكل أساسي على بنية الدولة السورية في المستقبل.
على مستوى تكتيكي، تريد واشنطن من وجودها في شرق سورية أن يساعدها في ضبط السياسات الداخلية لبلاد الرافدين، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات البرلمانية العراقية، فغموض السياسات العراقية، وعدم تأكد فرص فوز حليفها الأبرز رئيس الحكومة حيدر العبادي في الانتخابات المقررة مطلع أيار المقبل، يدفعان واشنطن إلى المحافظة على وجود عسكري في سورية، كبوليصة تأمين للنفوذ الأميركي في العراق الذي أنفقت الولايات المتحدة الغالي والنفيس من أجل التحكم بمستقبله.
على المدى طويل الأمد، تهتم الولايات المتحدة بضمان استمرار هيمنتها على الشرق الأوسط. لتحقيق هذا الأمر تبنت واشنطن إستراتيجية تهدف إلى إنشاء عوازل جيوسياسية جديدة في الشرق الأوسط، تكون أصغر من الدول الإقليمية التي سبق واستندت إليها في الماضي، وتاريخياً، استند الوجود العسكري الأميركي في المنطقة إلى قواعد عسكرية في الخليج، وتركيا إضافة إلى نشر قواعد بحرية في الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط، وتلك القواعد كانت الركائز الأساسية لمواجهة الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة.
حافظ الوجود العسكري الأميركي في المنطقة على المنظور ذاته، حتى انفجار أزمات «الربيع العربي»، وتصاعد القلق في واشنطن من بروز القوة التركية، التي صعدت بعد تمدد النفوذ الإيراني في طول المنطقة وعرضها، ومساعي أنقرة إلى بناء «هلال إسلامي» في الشرق الوسط، يبدأ من اسطنبول وينتهي في نواكشوط، مروراً بسورية ومصر وتونس، وكانت النقطة الحاسمة بالنسبة لواشنطن هي إعلان داعش «دولة الخلافة» بعد احتلالها مدينة الموصل.
في حينه، رفضت واشنطن مقترحات تركية لتسليح وتدريب المعارضة المعتدلة في سورية، للقضاء على داعش، واهتدت خلال معركة مدينة عين العرب، إلى الأداة التي ستمكنها من تخفيف اعتمادها على الأتراك سواء في سورية أم في غيرها ألا وهي مليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية.
استغلت الولايات المتحدة الموقف الصعب الذي أوجدت ميليشيا «حماية الشعب» نفسها فيه، إبان مواجهة داعش والميليشيات المدعومة من تركيا، وانتزعت منها موافقتها على نشر جنود أميركيين وطائرات في أكثر من عشرة مواقع في شمال وشرق سورية، بينها المطار الزراعي في رميلان، وسد تشرين، ولاحقاً، ثبتت واشنطن وجودها العسكري في مطار الطبقة العسكري، وبالإضافة إلى ذلك، نشرت واشنطن قوات عسكرية لمراقبة الحدود السورية التركية منعاً للاحتكاك بين الجيش التركي وعناصر «حماية الشعب»، ومجمل هذا الانتشار في سورية قلص من أهمية تركيا بالنسبة لواشنطن، وخفف من أهمية قاعدة أنجرليك في جنوب تركيا.
الوجود العسكري الأميركي في الشرق السوري، يعزل أيضاً إيران عن التأثير في سياسات الهلال الخصيب، وهكذا، ترد الولايات المتحدة إستراتيجياً على تصاعد القوتين الإيرانية والتركية في الشرق الأوسط، واللتين تشكلان منافسين للهيمنة الأميركية، عاملةً في الوقت نفسه على توفير تكامل أرضي للانتشار العسكري الأميركي في شمالي سورية والعراق فالأردن، وصولاً إلى دول الخليج.
إذا ما كان التفكير الإستراتيجي الأميركي متمحوراً على احتواء القوة الصينية في القرن الواحد والعشرين، فإن الجزيرة السورية تشكل موقعاً مناسباً لعرقلة خطة «حزام واحد طريق واحد» التي يتبناها الرئيس الصيني تشي جيبينغ من أجل إحياء طريق الحرير التاريخي الواصل بين الصين وأوروبا عبر الشرق الأوسط.