الندوة الثقافية الشهرية الحادية عشرة «محمد الماغوط… في مدن الغرباء» … دريد لحام: أنا والماغوط كنا شخصاً واحداً في تفكيرنا وقناعاتنا وبطريقة عشقنا لوطننا
| سوسن صيداوي – «ت: طارق السعدوني»
«لكي تكون شاعرا عظيما يجب أن تكون صادقا، ولكي تكون صادقا يجب أن تكون حرا، ولكي تكون حرا يجب أن تعيش، ولكي تعيش يجب أن تخرس». نزقه وطبعه العصبي أبعد عنه كل من يقرؤه سلبا. صدقه وصفاء نياته وصراحته المباشرة غير القابلة لأي نوع من المجاملات، إضافة إلى فكره غير النمطي حول الأمور والمجريات في الحياة، شكلته كي يكون كائنا غريبا حتى وهو في عقر داره، وكما حنينه لنفس أخرى غير ذاته، غرّبته أيضاً عن أحبابه. إنه الأديب الحاضر دائماً في القلوب والأذهان محمد الماغوط. وتكريما لطيب كلمته، ودفء شعوره، أقيمت برعاية وزارة الثقافة الندوة الثقافية الشهرية الحادية عشرة بعنوان: «محمد الماغوط… في مدن الغرباء» تضمنت الندوة ثلاثة محاور، الأول «الغربة في شعر الماغوط» قدمه الدكتور عبد اللـه الشاهر، والمحور الثاني «الماغوط وإشكالية الهوية» قدمه الأستاذ حسام خلوف، أما المحور الثالث «مسرح الماغوط وتجربتي معه» فقد لخصه المخرج علاء الدين كوكش، وكانت الندوة بإدارة الدكتور إسماعيل مروة، بحضور معاون وزير الثقافة علي المبيض والفنان القدير دريد لحام، وعدد متنوع من الحضور المهتمين في مكتبة الأسد الوطنية بدمشق.
المسرح في أزمة
تحدث الفنان القدير دريد لحام في تصريح خاص لـ«الوطن» عن قضية مهمة يعاني منها المسرح السوري، مشيراً إلى ضرورة أن تتدخل الدولة لحل مسائل أساسية، كي يبقى المسرح في سورية قائما ونشطا، حيث قال: «محمد الماغوط محطة مهمة جداً في المسيرة الثقافية والفنية في سورية والعالم العربي، وبالتأكيد لا يمكن أن يعوّض، فهو محطة خاصة لا يمكن تكرارها وقائمة بذاتها. والمسرح سواء في الأزمة أو خارجها هو بأزمة، وطبعا السبب لأن المسرح إذا لم يُدعم ماديا ومعنويا، لا يمكن أن تبقى أضواؤه مشتعلة، باعتبار دخله لا يمكن أن يعطي مردوداً مادياً يمّكن عشاق المسرح من فنانين وكتّاب وإلخ من العيش- ولا أقول بحبوحة- بل بحد الكفاف، وهذا أمر غير ممكن، لهذا نرى للأسف أن خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية يذهبون للتلفزيون، لأن المسرح لا يبادلهم حبهم ويمنحهم ماديات تمكنهم من العيش بكرامة، ويجدون في التلفزيون ما يوفر لهم حاجتهم من الناحية المادية. هذا إضافة إلى نقطة مهمة جدا، وهي عندما يُعرض العمل المسرحي أشهراً، فإن المسرح بعروضه يستطيع أن يتكفل بنفسه، بكل عناصره من ديكور إلى ملابس إلى إضاءة وغيرها الكثير من أساسيات العروض، فهذه الأمور لا يمكن أن يتم جمعها بأسبوع أو اثنين بل تحتاج إلى أشهر، وفي زمننا مع الماغوط، كان يتم عرض المسرحية عدة أشهر، وهذا ما يعطي المسرح قدرة بأن يتكل على نفسه، هذا وهناك أمر جد مهم في ذلك الوقت، لقد كان وقتها هناك نوع من التوازن، فمثلا عندما تخرجت أنا في الجامعة في عام 1959 عيّنت أستاذا في صلخد، وكان راتبي الشهري 425 ليرة سورية، وكنت أعيش به في بحبوحة، وليس الكفاف، على حين في زمننا اليوم راتب الموظف لا يبلغ مئة دولار، بينما في الدول المجاورة الحد الأدنى للأجور 1200 دولار، لهذا السبب هناك مسألة مادية لا يمكن حلّها إلا بأن تتدخل الدولة ماديا كي يبقى المسرح ضاويا».
هذا وكان الفنان لحام هو من بدأ الندوة بحديثه عن علاقته بالأديب الراحل محمد الماغوط، قائلاً: «بدأت معرفتي به في نهاية سنة 1973عندما التقينا في نقابة الفنانين، وعندما جلسنا وتبادلنا الحديث كان هناك تطابق بيننا في رؤيتنا المشتركة لأسباب نكسة حزيران 1967، وسرحنا في الحديث واتفقنا أن نعرض رؤيتنا للجمهور في عمل مسرحي، فكانت مسرحية ضيعة تشرين، واتفقنا على ألا نقدم رؤية بل نظرة صادقة لما جرى في هذه الهزيمة النكراء التي أفقدتنا توازننا، والتي كانت بقناعتي أنا والماغوط هي هزيمة وليست نكسة. جلسنا نحو شهرين، وكنا نضع في سيارتي طاولة وكرسيين وترمس قهوة ونذهب إلى الغوطة، نجلس تحت أشجار المشمش، ونفكر ونكتب لغاية ما انتهينا من مسرحية ضيعة تشرين، كان هذا أول تعاون وبسبب نجاحه- ولأنه صادق- انطلقنا إلى الغربة وكاسك يا وطن، ثم شقائق النعمان. بعدها حصل بيننا سوء تفاهم صغير، فابتعدنا عن بعضنا كتعاون فني، ولكننا بقينا أحباباً وأصدقاء، وواصلت زياتي لمنزل الماغوط بشكل أسبوعي، وحتى عندما كنت أتأخر عليه، كان يهاتفني ويقول لي أين أنت؟ بالنتيجة أنا والماغوط اثنين بشخص واحد، كنا شخصاً واحداً في تفكيرنا وشخصا واحدا في قناعاتنا، وشخصا واحدا بطريقة عشقنا لوطننا وأمنا سورية».
كلمة مدير الندوة
تحدث مدير الندوة الدكتور إسماعيل مروة عن لقائه بالماغوط قائلا: «هذا الشاعر الجميل جدا، بكل ما فيه. أذكر أنني أول مرة التقيت فيه «حزن في ضوء القمر»، وآخر مرة التقيت به كان في مكان اسمه «ضوء القمر»، في تلك الزيارة دخلنا، فوجدت الماغوط على أرجوحة، فقال لي (تعال اجلس وتمرجح قليلا ربما ترى بطريقة أجمل)، فقلت له وقتها (لماذا ينفروننا منك، الذين يحيطون بك)، أجابني (لأنهم لا يجيدون التعامل مع الصدق). وبصدق عندما اجتمعت به وجدت كل ما كان يقال عن الماغوط بأنه إنسان عصبي وقاب قوسين نرفوز ويبعدك ولا يسمح لك بالاقتراب وهو شخص له مزاج، كان كل ما سلف صحيحا، لأنهم قرؤوها بالسلب، فمحمد الماغوط في اللحظة التي قال فيها (إنني اخترت الحزب القومي الاجتماعي لأن الحزب لديه مدفأة) أطلعنا يومها على قضية وشُرّفت في كتابتها مع صديقي غسان شما. محمد الماغوط جاء من تلك المدينة المكتظة بالمثقفين وما من أحد ينكر أن مدينة سلمية هي التي أعطتنا كمّا كبيراً من المثقفين والموهوبين، والمبدعين والمشاكسين، جاء ليتوه في مدن الغرباء. وفي عام1957عندما أُسست مجلة شعر ويوسف الخال وأدونيس، كان الماغوط هو رائد القصيدة فيها، وأسس لقصيدة لم يبرع بها أحد قبله، وعندما ودعنا بقيت هذه القصيدة التي تسمى قصيدة النثر.
محور الغربة في شعر الماغوط
من جانبه تحدث الدكتور عبد اللـه الشاهر أن الماغوط منذ مجموعته الأولى «حزن في ضوء القمر» أعلن عصيانه وتمرده وتشرده قائلاً: «جرب ضروبا من الغربة سواء داخل الوطن أو خارجه، لكن الوطن ظل محطة أساسية في شعره، فالوطن عنده هذا التراب الذي يسري في دمه، والذي هو عقدة ذنب لا تنتهي. غرف من عفويته الدافقة من القلب، فكان شعره مفردات طالعة من ذاكرة بلا أسماء. شاعر جارح حتما ذاك الذي عانق الوطن بكلتا يديه، أعلن صراحة بقوله «سأخون وطني» فكتب قصص خيانات معلنة للوطن. عاش عصر الاغتراب، في مرحلة من أكثر مراحل تاريخنا العربي اضطرابا وهيجانا، فاهتزت عنده المقاييس الفكرية والاجتماعية، ووجد نفسه أمام مجموعة من التناقضات وحالات التوتر الشديد، فجاء نصه الشعري لتلك التناقضات وذلك التوتر، كتب أحزانه بنثرية رائعة، وبنهم عاشق متشرد، وذلك لأن زمنه الشعري وزمن المجتمع السائد أصبحا يشكلان خطين متعارضين، تجرأ على النمط الشعري القديم، فدخل إلى القصيدة الحديثة بلا أوزان ولا قوافٍ».
مسرح الماغوط وتجربتي معه
تحدث المخرج علاء الدين كوكش عن علاقته بالماغوط، مشيراً كم كان يعاني الأديب من الحزن والغربة، قائلاً «محمد الماغوط لا يموت، بل هو باق وحاضر وموجود بيننا من خلال إرثه الأدبي الكبير، وكان في حياته يجسّد الغربة بشكل مطلق، وكما قال أبو حيان التوحيدي (أشد الغرباء غربة من كان غريبا في وطنه) والماغوط كان غريبا في وطنه، وكان يشعر بالابتعاد عن كل شيء، وبقيت الحرية والانطلاق هاجسه. لقد كان الماغوط صديقا وكنا نلتقي منذ بدايات التلفزيون وكان بيننا صداقة وثيقة. في عام 2004 اتصل بي، وطلب رؤيتي وخاصة أننا كنا في فترة لم نعد نلتقي فيها كما في السابق، وعند رؤيته كان إحساسي بمحله بأنه كان ينتحر رويدا رويدا رغم أنه على قيد الحياة. قال لي وقتها إن لديه الكثير من الأفكار حول «حكايا الليل والنهار»، ولكنه يريد من يتابع ويكتب الأفكار- وطبعا طلب الماغوط لا يرد- واتفقنا وانتخبنا اسمين من كتّاب التلفزيون هما كوليت بهنا وعماد ياسين، كانا يأتيان معي ويسمعان أفكار الماغوط ويقومان بكتابتها، وأنا تابعت الموضوع معهما. كانت لدى الماغوط الرغبة في أن يكون اسمه على عمل تلفزوني ثانٍ، ولكن لم يكن لديه الرغبة في المتابعة في موضوع كتابة الأفكار، ما دفعني كي أتابعها أنا، وبالفعل تابعنا كتابة الحلقات وكنا نُطلع الماغوط عليها كي يُبدي موافقته عليها، حتى انهينا العشرين حلقة وفي بداية كل حلقة وضعت صوتاً وصورة للماغوط وهو يقرأ قصائده كي يكون توثيقا. في تلك الفترة سافر، وفي أثنائها كان العمل في مرحلة المونتاج، لكن الموت كان أسرع ولم يشاهد مسلسل «حكايا الليل والنهار».
الماغوط وإشكالية الهوية
تحدث الأستاذ حسام خلوف من منظور خاص ورؤية تحاول أن تضيء على كتابات محمد الماغوط، في منهج بنيوي نفسي أرسى قواعده «جاك لاكان» الفيلسوف والمفكر الفرنسي، حيث قال: «يرى لاكان أن اللغة هي محط الوجود الإنساني، وأن معانينا كبشر إنما تتحدد بالاسم اللغوي الذي نتكنى به، وليس مما قد ننطوي عليه من مواهب وأفكار ومقومات… وأود أن أصل بكم إلى فكرة مفادها أن أسماءنا الشخصية وكنيات آبائنا وأنساب أجدادنا ومكان قبيلتنا هذه المفردات اللغوية المكونة لهويتنا الشخصية، جميعها تُلقي على كاهلنا انتماءات رمزية لم نخترها، ولاءات لا يد لنا فيها، نحن ولدنا أحراراً لدقائق فقط، ولكن أسماءنا فرضت علينا أن نتموضع، في طبقة محددة، وفي معبد محدد، وضمن قومية محددة. كل هذا التقطه وعي الماغوط فأعلن قطيعته الكاملة مع أي إيحاءات رمزية صادرة من هويته اللغوية، كما يقول: (أنا لست مسؤولا عن شيء، ولا علاقة لي بشيء في هذا العالم، لم أجد نفسي إلا في ذلك الرحم، وداخل هذه المنطقة، وداخل هذه الثياب، وفي جيبي هذه الكرتونة التي اسمها هوية).. إن توصيف الماغوط لهويته بأنها كرتونة، يعكس مدى سخطه من سطوة الاسم الحقيقي على كينونته المنفردة، وفي الحقيقة إدراك الماغوط لسطوة الاسم على الذات قد بدأ مبكرا منذ كان طفلا في سلمية، حيث يقول: (في سلمية تفتح وعيي على مقابر خاصة بالأمراء ومدارس خاصة لأولادهم بينما كنا كأبناء فلاحين لا نذهب إلى المدرسة، بل إلى الكتاب).. إذاً بهذه الكيفية ولد الماغوط الشاعر، ليكتب بطريقة استثنائية، مستخدما اللغة ضد اللغة، الكلمة ضد الكلمة، الشعر ضد الاسم والهوية الشخصية، حيث ستتخلل إشكالية الهوية والذات على كل الأجناس الأدبية التي كتب فيها للمسرح والسينما والرواية والشعر».