بين المقاومة والمبايعة
| رفعت البدوي
في العام 2002 عقد في العاصمة اللبنانية بيروت اجتماع القمة العربية وكانت من أهم القمم العربية ليس لأنها شهدت حضوراً عربياً مميزاً وحسب بل لأن تلك القمة شهدت الكثير من الأحداث التي يجب توثيقها وتأريخها وتدريسها في المدارس والجامعات وتدوينها في كتب التاريخ الصحيح، وأيضاً من أجل إماطة اللثام عن العقم وغسل الأدمغة والكذب والتزوير الذي مورس علينا في كل ما تعلمنا ودرسنا وقرأنا في كتب التاريخ المدرسية أو الجامعية المليئة بالشهادات المزورة وذلك بهدف طمس حقيقة تآمر بعض العرب على العرب، ومتاجرة معظم الملوك والأمراء والرؤساء في بعض النظم المسماة العربية، بأنبل قضية في تاريخ الإنسانية فلسطين.
في قمة بيروت 2002 تقدمت المملكة السعودية المتمثلة بولي العهد آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز، بمبادرة لحل النزاع بين العرب والكيان الصهيوني سميت بالمبادرة العربية قائمة على مبدأ انسحاب العدو الإسرائيلي إلى حدود ما قبل الرابع من حزيران 1967، مقابل إقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس، يليها الاعتراف العربي بإسرائيل كدولة طبيعية معترف بها في منطقتنا العربية.
لكن وبعد التدقيق والتمحيص ببنود مبادرة الأمير السعودي عبد الله بن عبد العزيز اكتشف رئيس القمة العربية آنذاك فخامة الرئيس اللبناني إميل لحود، أن المبادرة لم تلحظ مبدأ حق العودة للفلسطينيين، وفيها خرق واضح لقرار الأمم المتحدة رقم 194 القاضي بحق عودة الفلسطينيين الذين هُجّروا من أرض فلسطين عام 1947، حينها رفض الرئيس إميل لحود إقرار المبادرة العربية ما شكل سابقة غير معهودة في تاريخ القمم العربية، أن يرفض رئيس قمة عربية إجماعاً عربياً بالموافقة على المبادرة.
الرفض اللبناني ترك أثراً كبيراً صادماً مسبباً إرباكاً واضحاً لدى مختلف الوفود المشاركة في القمة وفاتحاً ملف حقيقة التآمر والتخاذل العربي للتخلص من القضية الفلسطينية وإنهائها، ولو كان بالشكل المذل للعرب وللفلسطينيين، وأيضاً لمعرفة مدى تأثير دوائر الشر في كل من أميركا وإسرائيل على مقررات القمم العربية وعلى الجامعة العربية وعلى مجمل المؤسسات العربية.
رئيس القمة الرئيس إميل لحود وقف وقفة رجل شجاع يمتلك الضمير العربي الحقيقي مخلصاً لفلسطين ولمبدأ مقاومة العدو الإسرائيلي، وقف إميل لحود في وجه كل ملوك وأمراء ورؤساء الوفود العربية مجتمعة متمسكاً بعروبته الحقيقية وبوطنيته وبضميره الحي بعناد وصلابة رغم محاولات بعض المشاركين بالتهويل تارة وبالترغيب تارة أخرى لثنيه عن موقفه الرافض من المبادرة السعودية، الرئيس لحود أصر وبعناد على موقفه الرافض ما لم تتضمن المبادرة السعودية، بنداً صريحاً وواضحاً وفي صلبها يضمن الاعتراف بحق العودة للفلسطينيين.
إن رفض الرئيس إميل لحود للمبادرة بصيغتها غير المتضمنة حق العودة، كشف لنا وللأجيال وللتاريخ زيف ادعاء معظم العرب حرصهم على العروبة وعلى حق العرب في فلسطين، كما كشف عن الوهن والتخاذل الذي بات يتحكم بملوك وأمراء ومشايخ النفط العربي، الذين لا يملكون جرأة اتخاذ قرار واحد يدين إسرائيل في عدوانها وتدخلها المستمر في شؤون بلادنا العربية من خلال إثارة الفتن المذهبية ودعم الحركات الإرهابية بهدف إسقاط كل النظم العربية التي تؤمن بقضية فلسطين وبمبدأ المقاومة.
لم تفلح كل المحاولات والاتصالات التي قام بها كل من أمين الجامعة العربية آنذاك عمرو موسى ووزراء خارجية كل من السعودية والإمارات وقطر وحتى الفلسطيني نفسه مع وزير خارجية أميركا آنذاك كولن باول للضغط على رئيس القمة الرئيس اللبناني إميل لحود، وبقي متمسكاً بمبدأ إقرار حق العودة في المبادرة، وكان للرئيس إميل لحود ما أراد، حينها تم إقرار المبادرة السعودية التي سميت عربية، وبالصيغة التي تضمن حق العودة كما أرادها الرئيس المقاوم إميل لحود.
الرئيس السوري بشار الأسد في طريق العودة من بيروت إلى دمشق، قال للوفد المرافق: إن وقفة الرئيس الشجاع إميل لحود أدخلته التاريخ لأنه حفظ حق العودة للفلسطينيين وحفظ حق العرب.
واليوم، بعد مرور خمسة عشر عاماً على إقرار المبادرة العربية في بيروت، لم يتحقق من تلك المبادرة أي شيء بل على العكس تماماً فإن المتخاذلين من العرب وخصوصاً عرب النفط، امتهنوا طأطأة الرؤوس والهوان وتقديم الطاعة ورهن الثروات وتقديم التنازلات المتتالية لمصلحة الأميركي والإسرائيلي على حساب فلسطين والفلسطينيين وعلى حساب كرامة العرب.
بعد مرور خمسة عشر عاماً على إقرار المبادرة العربية تكشف المملكة السعودية صاحبة المبادرة العربية، عن تآمرها على فلسطين حين قبلت بشطب حق العودة من المبادرة، كما أنها لم تعد تطالب بإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس بل بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، أي اقتسام الحق العربي والإسلامي والمسيحي في مدينة القدس مع عدو الأمة إسرائيل.
ومع مرور الوقت والزمن وفي ظل هذا التآمر السعودي الخليجي الإسرائيلي الأميركي على فلسطين، فإن فلسطين ستصبح في خبر كان وتكون عملية غسل العقول قد اختمرت وحينها تصبح إسرائيل الحليف الوفي للسعودية ولعرب النفط في مواجهة العدو المشترك إيران الداعمة لمقاومة إسرائيل.
لم تعد خافية تلك الخطوات المتسارعة للملكة السعودية في دأبها على تهيئة كل المناخات السياسية والاقتصادية والأمنية، مظللة بحماية أميركية، والهادفة إلى تطبيع العلاقات مع العدو الإسرائيلي، وما كان يجري بشكل سري بدأ يظهر للعلن ولو بشكل تدريجي، بدءاً بإجراء مقابلات صحفية مع شخصيات أمنية إسرائيلية لمصلحة وسائل إعلام سعودية رسمية، مروراً بالتعاون العسكري والاستخباري، وما هي إلا مسألة وقت حتى تشهد الرياض إعلان الولاء والطاعة ومبايعة الأمير محمد بن سلمان ملكاً للسعودية لينتهي الأمر بمبايعة هذا الملك لإسرائيل ولينهي بعهده قضية فلسطين.
بين رئيس مقاوم وملك مبايع، فإن التاريخ سيكتب للأجيال القادمة كاشفاً كل ما جرى ويجري بين المقاومة والمبايعة.