قضايا وآراء

إلى أين يريد أن يأخذها ابن سلمان؟

| عبد المنعم علي عيسى

من نافل القول: إن الحروب تقوم عندما تفشل جرافات السياسة في فتح معابر آمنة أمام قوافل المال والتجارة، بما فيها اختلال السيطرة على المعابر الحساسة لذينك الأمرين، وكذا عندما تفشل روحية الدبلوماسية في توفير الأمن والاستقرار لشعوبها، وربما تنشب أيضاً لأسباب أخرى هي أقل أهمية أو أنها نادرة الحدوث، إلا أن هناك طيفا غائبا، أو هو مغيب قصدا، لكنه يتراءى للناظر من بعيد في خلفية اللوحة خصوصاً إذا ما تم التبصر فيها جيداً بكل حيثياتها الهامشية منها قبل الأساسية.
وضع نظام صدام حسين ما بعد هزيمته في حرب الخليج الثانية، أو ما عرف بحرب تحرير الكويت ما بين كانون الثاني وشباط 1991، صورة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب كأرضية سيراميك على مدخل فندق الرشيد ببغداد، ومن المعروف أن ذلك الفندق كان آنذاك يمثل المكان الأكبر الذي تؤمه كبار الشخصيات السياسية والدبلوماسية العالمية التي تأتي لمتابعة أعمالها في العاصمة العراقية، وبمعنى آخر كان يتوجب على هؤلاء جميعهم أن يطؤوا بأقدامهم صورة بوش الأب قبيل أن يبدؤوا متابعة أعمالهم التي جاؤوا من أجلها.
طبعاً نحن هنا لا نقول: إن الغزو الأميركي للعراق في آذار 2003 وإسقاط عاصمته في نيسان من العام نفسه، قد جرى فقط انتقاما للسلوك العراقي المهين للذات الأميركية، والذي يطال أحد أهم رموزها، فمهما قيل لا يمكن تجاهل أن الرئيس الأميركي، شأنه شأن أي رئيس دولة آخر، إنما يمثل رمز عزة وكرامة الأميركيين، ومن شأن الاستمرار في الفعل أن يؤدي إلى حال من الاحتقان قصوى وهو يصبح بمرور الوقت غير محتمل أو أنه يترك ندبات على الأداء السياسي الأميركي ربما تكون بادية بشكل واضح لدى القائمين على السياسة الأميركية الذين يجب أن تبدو علائم العظمة على محياهم دون وجود لأي شرخ إتماماً لمشهد الإمبراطورية الأقوى في التاريخ، وهو ما يفسر ذهاب قائد عاصفة الصحراء الجنرال شوارزكوف إلى فندق الرشيد لإزالة تلك الندبة قبيل الذهاب إلى حيث كان ينشد إليه المشهد العالمي، والذي كان يجري في الساحة العامة ببغداد التي كانت تشهد إسقاط تمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين صبيحة ذلك اليوم المشؤوم التاسع من نيسان 2003 والذي لا نزال نعيش تداعياته إلى الآن، فيما طابور المصفقين العرب طويل ولا ينتهي شأنهم في ذلك شأن ما نراهم عليه اليوم من محاولات لإسقاط دول ارتكازية في البنيان العربي دون حتى أن يتم التساؤل: ثم ماذا بعد؟
وصف ولي العهد السعودي في الثاني والعشرين من الشهر الجاري مرشد الثورة الإسلامية الإيرانية علي خامنئي بـ«هتلر هذا العصر»، ومن المؤكد أن هذا التوصيف لا تحتمله حالة التوتر الإقليمية ولا درجة الاحتقان القائمة، وحتى لو جاء الرد الإيراني أقرب إلى التجاهل، فهذا لا يعني أن ذلك لم يكن جارحا للملايين من الإيرانيين الذين يرون في خامنئي رمزا لعزتهم ولسمو دينهم، وبذا فإن هذا التوصيف عدا عن أنه بعيد عن السياقات أو اللباقات الديبلوماسية المتعارف عليها، فإنه ولا شك من النوع الذي تختزنه الذات الجماعية للأمم، فيما طهران لن تجد نفسها مضطرة إلى المضي قدما نحو رد الاعتبار لرموزها، ومن المفيد هنا أن نذكر بأن طهران هذه هي نفسها التي انتظرت عقدين من الزمن لكي تحين اللحظة الدولية التي ترد لها اعتبارها تجاه ما اعتبرته عدوانا عراقيا عليها غير مبرر، فراحت تدفع بها وتنضج من ظروفها وتمهد وتزيل ما يظهر من عقبات أمامها ثأرا لدماء كانت ترى أنها اهرقت من دون ذنب أو سبب.
في مطلق الأحوال ما من دولة أو مسؤول فيها له مصلحة في هكذا مساس، وهو إن حدث فهو يشير بشكل مؤكد على أن القائم بالفعل ضيق النفس وقصير الرؤيا، وهو إذ يستند في إخضاع حباله الصوتية لأقصى ما تحتمله على دعم أميركي، إن لم يكن إلى دفع أميركي، للعب دور رأس الحربة في حرب يريدها لكنها لن تحدث على الإطلاق، فهو يؤكد أن «كرت الذاكرة» لديه ذو سعة هي في الحدود الدنيا أو أنه لا يتقن قراءة الأحداث، وإلا لكان قد تذكر أن عواصف «جاستا» كادت أن تطيح بالخيمة السعودية بمن فيها، وهو ما لاحت بوادره ما بين أيلول وكانون أول العام الماضي قبل أن تتغير حسابات إدارة دونالد ترامب التي ارتأت أن الظروف تسمح لها بكنس الأموال السعودية، وربما حتى الآتي منها، وفي الآن ذاته يبقى السيف هو نفسه مسلطا على العنق السعودية، فلما الاستعجال إذا؟ وليترك الجمر تحت الرماد لكي تأتي ريح فتذروه ويتكشف اللب من جديد.
ابن سلمان يلعب بكرة النار التي لا يبدو أنه يتقن اللعب بها، وفي الآن ذاته ينتظر نقلها من يد إلى يد حتى تصدر تعاليم المدرب، في الوقت الذي تتطلب فيه اللعبة سرعة لا تحققها عملية الاعتماد على مركزين عصبيين هما في غاية التنافر، ولذا فإن الكرة قد تنفلت في أي لحظة من اللحظات وما من يباس ستلاقيه في حينها أكثر من اليباس السعودي الذي يمضي ابن سلمان قدما في إيصاله درجة الاحتطاب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن