قضايا وآراء

هدنة أميركية تركية في سورية

| أنس وهيب الكردي

لم تكن الهدنة الأميركية التركية في سورية، التي تم تظهيرها عبر الاتصال الهاتفي ما بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان، مفاجئة، بمقدار ما كان مفاجئاً تأخرها.
هذا الاتصال الذي تعهد فيه ترامب لأردوغان بوقف تقديم السلاح لـ«قوات سورية الديمقراطية -قسد» الذراع البرية للتحالف الدولي في الحرب ضد تنظيم داعش في سورية، يمثل رأس تتويج لهدنة ما بين البلدين، كان من المنتظر أن تعلن في مرحلة ما بعد دير الزور، لكنها تأخرت ريثما دخلت المنطقة مرحلة ما بعد تنظيم داعش.
ربما كان الدافع وراء التأخير هو رغبة أنقرة في الاستمرار بمسار أستانا، لترى فيما إذا كانت شريكتاها في العملية مستعدتين لتقديم تنازلات في منطقتي عفرين وتل رفعت بريف حلب الشمالي الغربي، حيث لروسيا وإيران نفوذ وسيطرة مباشران.
ولدى اصطدام المفاوضين الأتراك برفض نظرائهم الروس والإيرانيين القاطع للتراجع أمام مطلبهم إعطاء تركيا الضوء الأخضر لعملية عسكرية ضد مسلحي مليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية المتمركزين في مدينة عفرين أو منطقة تل رفعت، بان لأنقرة حدود الاعتماد على عملية أستانا لتحقيق أهدافها الإستراتيجية في سورية، المتمثلة في الإمساك بتوازنات الشمال السوري، والمساهمة في التسوية السياسية للأزمة، وعملية إعادة إعمار البلاد.
أتى حادثان إضافيان ليعززا هذه الحقيقة، أولهما: الاتفاق الذي توصل إليه ترامب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين بخصوص سورية على هامش قمة «المنتدى الاقتصادي لدول شرق آسيا – إيبك»، ونص على ضمانة متبادلة روسية أميركية لقوات الجيش الروسي والأميركي وشركائهما في الحرب على ما تبقى من تنظيم داعش في البادية الشامية وشرق محافظة دير الزور، وأخفت كلمات اتفاق بوتين ترامب تعهد روسي للأميركيين بتوفير حماية لتحالف «قسد»، الذي تقوده مليشيا «وحدات الحماية»، ليس فقط في مناطق شرق نهر الفرات بل أيضاً، في غربه في الطبقة ومنبج وعفرين وتل رفعت.
ثانيهما، خلال قمة سوتشي، التي أوضحت لأردوغان أن الروس جديون بدعوة حزب الاتحاد الديمقراطي «بايادا» وذراعه العسكرية «وحدات الحماية»، إلى مؤتمر الحوار السوري الوطني العتيد، وأن موقفهم العام من الحزب، الذي تعتبره أنقرة امتداداً سورياً لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا، لا يختلف في الجوهر عن الموقف الأميركي، وإذا كان الموقفان الروسي والأميركي متشابهين من «بايادا»، فقد اكتشفت أنقرة أنها لن تحقق شيئاً من التقارب مع الروس على حساب الأميركيين، بل إن خلافها المفتوح مع واشنطن تركها عارية أمام الضغوط الروسية الإيرانية المزدوجة.
لعل أكثر ما صعب قبول الروس بمطالب الأتراك في شمال غرب حلب: أولاً، رفضهم توسع تركيا فيما يعتبر منطقة نفوذ روسية في غرب سورية، ثانياً، رغبتهم في الاحتفاظ بأوراق للضغط على الأتراك في المستقبل، وخصوصاً أن موسكو سبق أن جربت بنجاح ورقة «حماية» وكانت النتيجة هزيمة المجموعات المسلحة المدعومة من تركيا لسيطرتها على مدينة تل رفعت وإحدى عشرة بلدة في محيطها لمصلحة «وحدات الحماية» مطلع العام الماضي. ثالثاً، تخشى موسكو إذا ما تنازلت في عفرين من أن تخسر نفوذها بين الجماعات الكردية في المنقطة المؤمنة، بأفكار حزب العمال الكردستاني، وأن يتحول هؤلاء إلى حلفاء بالكامل لواشنطن بعد تاريخ طويل من العلاقات مع موسكو أيام الحرب البادرة، وبالتالي تفقد روسيا دورها في مستقبل القضية الكردية في الشرق الأوسط، وبعد معركة كركوك، وجدت موسكو فرصة للترويج لدبلوماسيتها بين القوى الكردية، وخصوصاً أن نتائج المعركة عززت مخاوف تلك القوى المزدوجة من الدول الإقليمية، والولايات المتحدة.
ما ينطبق على روسيا ينطبق بشكل أو بآخر على إيران، فالأخيرة أيضاً ترفض تعزيز النفوذ التركي في شمال سورية، وهي ترى كيف أن مجرد تهريب السلع التركية إلى الداخل السوري أقصى البضائع الإيرانية عن الأسواق بسورية!
وبينما كانت أنقرة تستشعر ضرورة تهدئة التوترات مع الأميركيين من أجل موازنة علاقاتها داخل المثلث الروسي الأميركي الإيراني، ولاسيما بعد مخاوفها من شبح توسع النفوذ الإيراني في إقليم كردستان العراق بعد كركوك على حساب الأتراك، تحسست واشنطن سبيلها إلى التفاهم مع الأتراك، وخصوصاً، أنها أمنت، مؤقتاً على الأقل، مواقعها في شرق سورية، بالاتفاق مع الروس.
بمجرد اقتراب الحرب على تنظيم داعش من نهايتها، تضاءلت القضايا الخلافية ما بين واشنطن وأنقرة حيث تقلصت حاجة الولايات المتحدة إلى مليشيا «وحدات الحماية»، فضلاً عن قلق إدارة ترامب من خسارة تأثيرها على أنقرة وانجراف تركيا وراء الروس والإيرانيين، وفي مواجهة سلسلة من الأزمات الإقليمية، تقاربت مواقف الطرفين من قطر، إلى استقالة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري، إلى كردستان العراق ما بعد كركوك، فضلاً عن مخاوفهما المشتركة من امتدادات النفوذ الإيراني في المنطقة، وحاجتهما إلى بعض فيما يتعلق بقضايا التسوية السياسية للأزمة السورية.
الاتصال ما بين ترامب وأردوغان أدى إلى تهدئة العلاقات الأميركية التركية، لكن عودتها إلى مسارها ما قبل داعش لن يكون متوافراً على الفور، وسيقود إلى نقلات دولية وإقليمية مضادة على الشطرنج الجيوبولتيكي الشرق أوسطي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن