الجاسوسية والعمالة
| زياد حيدر
في العام 2008، ضجت الصحافة اللبنانية وخلفها العربية والدولية بأخبار تفكيك الأمن العام اللبناني لعدة شبكات تجسس إسرائيلية، شملت ضباطاً ومثقفين وسياسيين وعمالا عاديين، وسُجل للمخابرات اللبنانية تفوق لا يستهان به، على أحد أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم، وهو الموساد الإسرائيلي وفقا للتصنيفات الدولية.
أتذكر أن صديقا قال لي حينها، ونحن نتابع مذهولين أخبار القبض على شخص معروف، إنه «لم يعد يستغرب شيئا»، بمعنى أن هذا الاتهام يمكن أن ينال أي شخص، أيا كانت صورته الخارجية، وانسجاما مع قول أحد الصحفيين اللبنانيين إن العمالة «باتت وجهة نظر» أو حتى «عملاً إضافياً».
ورغم المفارقة المحزنة المضحكة، هنا، فإن ما يثير الدهشة في عموم القصص التي تداولها الإعلام، هو الثمن البخس الذي يتقاضاه العملاء الخونة في أغلبية الحالات، وهو ما يجعل الخيانة بالفعل «عملاً إضافياً»، إلى جانب العمل الأساسي. هل هذا مقصود؟
في قضية الممثل زياد عيتاني، يتم الحديث عن مبلغ شهري بين 500 و1000 دولار، كبدل ثياب و«تحسين مظهر». هذا المبلغ في بيروت، هو الحد الطبيعي لأجار شقة صغيرة لا أكثر، ولا يكفي لتصنيع «صورة» شخص مكلف بمهام تجسسية، ذات آفاق بعيدة المدى.
أعود للسؤال مالذي يدفع شخصاً لهذا العمل مقابل هذه الكمية القليلة من المال؟
ليس المقصود أن الإغراء الكبير يبرر الخيانة، ولكنه يسهلها، ويجعل محاكمة الضمير الوطني إن وجد أصعب.
فعلى سبيل المثال، ليس خفيا، أن كثيراً من سياسيي وصحفيي الشرق الأوسط، ولاسيما في البلدان المركبة الطوائف والقوميات غير المستقرة، يتلقون أموالا من بلدان أخرى، وهذا بمنزلة سر مفضوح يعرفه الجميع، ولكن شيئاً من هذا لا يصنف كجاسوسية، كما في حالة إسرائيل، وإن أمكن توصيفه لغوياً بالعمالة، بحيث يتاح للدول الراعية والممولة القول: هؤلاء «حلفاؤنا أو أصدقاؤنا» هناك.
في هذه الحالة الأموال هي بمئات آلاف الدولارات، وصولا للملايين والشراكة في الاستثمارات وما إلى ذلك. من جهتها أموال الجواسيس تكفي فقط كي يستمر الجاسوس في العمل. هذه الإستراتيجية، شبيهة بشرب ماء البحر، إذ تكفي المئات الأولى من الدولارات لتجعلك متورطاً، ومعرضا لحكم إعدام في حال كشفت، وهكذا ينتظر الجاسوس الألف خلف الأخرى، ولكن من دون أن يتجاوز الأمر حدوداً مادية معينة. وربما يسلي البعض نفسه بـ«الإثارة» التي تمثلها هذه «المهنة»، متأثرا بقصص الجاسوسية العالمية، بحيث يقنع نفسه بأن الفرصة ستتاح ذات يوم للقول، في مذكرات أدبية، أو برنامج تلفزيوني «كنت عميلا للموساد على مدى أربعين عاما»، أو ما شابه من تلك القصص. ولكن، أظن أن هذه رتوش، أي المال القليل، والإثارة، وصنارة التورط، وما إلى ذلك، إلى القضية الأخلاقية والوطنية المتمثلة بالخيانة، ولاسيما فيما يتعلق بإسرائيل.
ما يدفع كثيرين للخيانة يختلف، على ما أعتقد، ويشكل جوهر المشكلة، في لبنان وغيره من الدول. والسبب ربما يمكن النظر إليه من أعلى نحو الأسفل، بالعودة إلى الأصدقاء الذين يتقاضون الملايين لخدمة بلدان أخرى على حساب مصلحة بلدهم العليا، وتحت لافتات الوطنية والنخبوية السياسية والاجتماعية. حينها يبدأ البعض بإيجاد هامش لفرديته، المتمثلة بالتصرف وفق مصلحته وقناعاته الشخصية، لا مصلحة الوطن العامة التي يراها مقزمة في نماذج كالسابقة…وللحديث بقية…