يا قدس.. يا عروسة المدائن
| بثينة شعبان
تعتبر القدس بالنسبة لكل عربي ومسلم ومسيحي شريف، جوهرة التاج وأيقونة قضية فلسطين والقضايا العربية قاطبة، ومع أن قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 قد اعتبر القدس وبيت لحم تحت وصاية دولية، فقد احتلت العصابات الصهيونية القدس الغربية خلال نكبة 1948، وبقيت القدس الشرقية ومن ضمنها المسجد الأقصى وحائط البراق تحت سيطرة الأردن حتى عام 1967، حين احتلت القوات الإسرائيلية القدس الشرقية خلال حرب حزيران.
منذ ذلك التاريخ، تم افتعال حريق في المسجد الأقصى في عام 1969، كما عملت السلطات الصهيونية على رفع وتيرة الاستيطان في القدس وبالتوازي وضع إجراءات أجبرت الكثير من المقدسيين، مسلمين ومسيحيين، على الهجرة من مدينتهم التاريخية، وقيدت حركة السكان من العرب بحيث لا يتمكنون من المغادرة للدراسة أو العلاج، كون القوانين التي وضعتها سلطات الاحتلال تسقط عنهم حقهم في العودة إلى القدس.
ترافق ما سبق، مع تدنيس قوات الاحتلال للمسجد الأقصى، ومحاولة إكراه المصلين المسلمين على العزوف عن الصلاة فيه، وابتكرت من أجل ذلك أسوأ أساليب التنكيل والإهانة والإذلال، وحددت أعمار من يحق لهم زيارة المسجد الأقصى، ومع ذلك ما كان لأحد ممارسة هذا الحق إلا بعد نضال وجهاد من قبل المؤمنين بحقوقهم والمرابطين من أجلها.
كل هذا وغيره الكثير الكثير حدث ويحدث تحت مرأى عرب ومسلمين، يدعون دعم القضية الفلسطينية ويتحدثون عن القيمة الروحية الكبرى للأقصى في قلوبهم وضمائرهم، وهم يراقبون الانتهاكات التي يمارسها الصهاينة بحق الأقصى والمقدسيين كل يوم، وللبرهان على «حرصهم» هذا، شكلوا «لجنة القدس» من ممثلين عن ستة عشر بلداً من بلدان الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي برئاسة العاهل المغربي الحسن الثاني عام 1975، ولكن هذه اللجنة انقطعت عن الاجتماعات لمدة اثني عشر عاماً بسبب الخلافات، وحتى حين اجتمعت فهي لم تحرك ساكناً ولم تتخذ إجراء يشكل نصرة حقيقية للقدس وأهلها، بل كانت الاجتماعات الإنجاز الوحيد الذي يتم تسجيله وكأن الهدف هو تخدير المشاعر بأن هناك من يسهر على مصلحة القدس، بينما كان الجميع عنها غافلين.
وبعد زيارة رئيس وزراء الاحتلال الأسبق الصهيوني أرييل شارون للمسجد الأقصى عام 2000، اندلعت الانتفاضة الثانية، ولكن وكما كان حال الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى كان عليهم أن يواجهوا أعتى الأعداء وآلته العسكرية الشرسة بصدور عارية وحجارة لا تلين بينما أقصى ما تفعله لجنة القدس والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، هو شجب أعمال العدوان على الأقصى دون أي دعم أو احتضان أو تبنٍ لشعب ما زال يقارع أسوأ أنواع الاستعمار الاستيطاني بأدواته البسيطة ودماء أبنائه.
هذا النفاق الخطير على المستوى العربي والإسلامي، واكبه نفاق لا يقل خطورة على المستوى الأميركي والأوروبي، الذين يدعون الالتزام بالشرعية الدولية والقرارات الصادرة منها، بينما لا يحركون ساكناً حين ينتهك الكيان الصهيوني هذه القرارات ويرتكب أبشع الجرائم بحق شعب أعزل ويهجّره من أرضه ودياره.
وحتى اليوم حين يصرّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب على نقل السفارة إلى القدس، تصدر عن حكومات غربية عبارات منافقة تعبر عن عدم موافقتها على هذا الإجراء علماً أنّ كلّ أفعاله قد مكنت الصهاينة من مصادرة أرض وحقوق شعب على مدى نصف قرن ونيّف.
إن النفاق الغربي واضح ومفهوم لأن الكيان الصهيوني هو صنيعة هذا الغرب ولا يمكن لعاقل أن يتخيل دعم الغرب للشعب الفلسطيني والوقوف معه ضد «إسرائيل»، أما نفاق العرب والمسلمين طيلة هذه السنوات وادعاءاتهم بدعم قضية فلسطين، على عكس أعمالهم التي تظهر تواطؤهم وتخليّهم عن القضية الأم، فهو أمر غير مفهوم، لسبب بسيط وهو أنهم جميعاً مستهدفون تماماً، كالشعب الفلسطيني والشعب المقدسي، وأن فلسطين ما هي إلا الاختبار الأول للانقضاض عليهم جميعاً في دولهم ومدنهم وقراهم، وأن عزوفهم عن دعم الشعب الفلسطيني لن يجلب لهم سوى البلاء حيثما كانوا وأينما حلّوا في أمصارهم، أو لم يروا أنّ كل ما تم تخطيطه لهذه الأمة من حروب ونزاعات يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية كمقدمة لتصفية العرب جميعاً وإقامة الولايات المتحدة الإسرائيلية على أراضيهم؟ أو لم يشهدوا بأم أعينهم أن مصيرهم واحد في العراق وليبيا واليمن وفي كلّ أقطارهم بالتتابع ما لم يستيقظوا ويقفوا وقفة رجل واحد دفاعاً عن القدس وفلسطين.
لم تعد بيانات الشجب ولا الإدانات كافية أبداً ولابدّ من عمل عربي ممنهج ومنظم يصمّ آذان العالم دفاعاً عن القدس ويبرهن أنهم لا يمكن أن يتجرؤوا على هذه الجوهرة التي هي رمز العزة والكرامة للعرب والمسلمين جميعاً.
هل سيتداعى العرب والمسلمون اليوم ويوقفون الساعة ويعلنون عصياناً على كل ما يـأتمر به العالم إلى أن يتراجع الصهاينة من غربيين وعرب عن قرار مشين سيكون بمثابة إعلان سقوطهم جميعاً؟ فمن يدافع عن القدس اليوم يدافع عن نفسه وبقائه، ومن يتهاون بحقّ القدس يستهن بحياته ووجوده.
القدس هي رمزنا، والقدس هي كرامتنا، والقدس هي عزّنا، والقدس هي هويتنا، وهي عنوان صمودنا وبقائنا، فهل نحتضنها بقلوبنا ورموش أعيننا، أم نعلن عن أننا ميتون وأننا غير جديرين بها أو بالحياة.
أزفت الساعة اليوم وهذا هو التحدي الجلل وهذا هو عنوان المستقبل للعرب والمسلمين، فأي عنوان ستسطرون اليوم على شاهدة التاريخ؟
لا شك أن توقيت قرار ترامب نتيجة طبيعية لاتفاقات الاستسلام من «سيناء 2» إلى «كامب ديفيد» مروراً بـ«وادي عربة» إلى «أوسلو» وصولاً إلى التطبيع السعودي مع الكيان الصهيوني، كما أنه ردٌ أرعن على انتصار محور المعارضة على المشروع الأميركي المسمى «الشرق الأوسط الجديد» الذي بدأ عام 2006 في لبنان وانتقل إلى سورية وهزم في الحالتين، كما أنه رد على انتصار محور المقاومة وتشكيل حلف مقاوم يمتد من إيران إلى العراق وسورية ولبنان، ولن يتمكن توقيع ترامب من إلحاق أي ضرر بهذا الحلف، لا بل إن هذا التوقيع سيعلن لكل العرب والمسلمين الشرفاء دفن كلّ اتفاقيات الذل والهوان التي أحبطت وقوضت جهود الأمة على مدى نصف قرن. علّ هذا التوقيع يكون إعلان الشرارة التي تفصل بين التاريخ المنافق الذي عشناه، وتاريخ صادق جديد شفاف مقاوم يصنعه العرب الشرفاء جميعاً ويكتبونه بأحرف من نور تعيد العزّة والكرامة والألق للعرب والعروبة صانعي هذا التاريخ.
رئيسة مجلس أمناء مؤسسة
القدس الدولية، سورية