ثقافة وفن

فسيفساء الأموي قداسة المكان وقدسية الفن

| منير كيال

عندما بنى الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الجامع الأموي سنة «705»م كانت الدولة الأموية إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، وكانت دمشق في أوج عصرها الذهبي أراد الوليد أن يكون هذا الجامع في فخامته بما يتناسب مع هذه الإمبراطورية، وأن يكون أفخم مساجد الدنيا.
استغرق البناء عشر سنين، حُشد خلالها عدد هائل من مهرة البنائين والمعماريين والنجارين والمرخمين. من بلاد الشام وبلاد فارس والمغرب. وقد أنفق الوليد في ذلك أموالاً طائلة، حتى قيل إن الوليد بدد بيت مال المسلمين. فلما بلغ الوليد ذلك، جمع الناس وبيَّن لهم أن بيت المال فيه من الأموال ما يكفي سبع سنين مقبلة، لو لم يرد إلى بيت المال دينار واحد.
ثم قال لهم:
يا أهل دمشق إنكم تفخرون على الناس بأربع خصال، تفخرون: بهوائكم ومائكم وغوطتكم وفاكهتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم هذا الخامسة.
وهكذا فإن الوليد لم يضن على كسوة الجامع الأموي وتزويقه وزخرفته.
لقد جعل أرضه مكسوة بالرخام، وقيل بالفسيفساء الحجرية، وجعل حيطانه مكسوة بالرخام المجزع إلى ارتفاع قامتي الإنسان، تلا ذلك كسوة هذه الجدران بالفسيفساء، كما جعل أعمدته من الرخام الموشى، ومعاقد رؤوس هذه الأعمدة ذهباً، ودوَّر سقفه كله ذهباً، وجعل محرابه مذهباً مرصعاً بالجواهر. وبلغ عدد نوافذ الزجاج المعشق أربعاً وسبعين نافذة. فضلاً عن مجامر البخور التي كانت روائحها تصل إلى بعد فرسخين عن الجامع.

التعريف بالفسيفساء
الفسيفساء مكعبات صغيرة من الزجاج أو الحجر الملون، كانت تكسى بها أرض وجدران المعابد والقصور اليونانية والرومانية والبيزنطية وقد عرف الصناع السوريوين فن الفسيفساء، وتعايشوا مع هذا الفن وأقاموا له الأفران اللازمة في سورية، وأظهرت الحفائر الأثرية عدداً من ألواح الفسيفساء المحفوظة في متاحف دمشق وأنطاكية والسويداء وحماة وشهبا، وجميعها يعود إلى ما قبل العهد الأموي، وهذا بدوره دليل على مهارة أولئك الصناع وبراعتهم بالفسيفساء خلال عصور متعاقبة.

فسيفساء العهد الأموري
أحب الأمويون فن الفسيفساء وكان من ولعهم به آنذاك أن أدخلوا الفسيفساء في تزيين قصورهم ودورهم، وكان أروع ما قاموا به تزيين الجامع الأموي بشكل لم يسبق له مثيل، فكان أحد روائع تراثنا الحضاري.
كان الصناع الذين استخدمهم الأمويون في أعمال الفسيفساء من أبناء بلاد الشام الذين مهروا بهذا العمل وتوارثوه عن أجدادهم، وبأعمالهم اشتهرت اليونان والرومان وبيزنطة يوم كانت بلاد الشام تحت حكمهم.

عروبة الفسيفساء
أما ما روي عن إسهام إمبراطور بيزنطة في أعمال بناء الأموي وكسوته وبخاصة أعمال الفسيفساء، فذلك أمر لا يرقى إلى الحقيقة، وهو أمر عار من الصحة، لأن الفترة التي كان فيها بناء الأموي كانت فترة تسود فيها العلاقات السيئة بين العرب والرومان.

خصائص الفسيفساء
امتازت أعمال الفسيفساء في زمن الأمويين بخصائص تقنية وتعبيرية وتشكيلية فريدة، مطبوعة بالطابع الإسلامي الأمر الذي جعلها ترتبط بالبيئة والمعتقد والحياة، لكونها تشكل انعكاساً جمالياً لما يجيش في صدر الصانع من تكوين صادق فريد للحياة، بما كان عليه أولئك الصناع من مهارة فائقة أعطت درجات لونية وصلت إلى تسعة وعشرين لوناً في اللوحة الواحدة، منها ثلاث عشرة درجة من اللون الأخضر فحسب، وقد وظفوا تلك الألوان في أوصاف الجنان من أنهار وأشجار وقصور مع زخارف وكتابات غاية في الحسن والدقة والصنعة، وقد غطت هذه الأعمال جدران الأموي وأروقته لدرجة جعلت منه أعجوبة الدنيا وفتنة الناظرين وزينوا الجدار القبلي (الجنوبي) لحرم الأموي بكتابات لآيات وسور من القرآن الكريم رصفت بفصوص مذهبة لازوردية، كما زين فوق المحراب بمناظر الكعبة ومكة المكرمة، وإلى جانبها أشجار الكرمة والعنب، بأوراقها وعناقيدها، فكانت غاية في الإبداع وفي ذلك قول الشاعر:

وإذا تفكرت في الغصون وما
فيها، تيقنت حذق واضعها.
أشجارها لا تزال مثمرة،
لا ترهب الريح في مدافعها
كأنها من زمرد غرست،
في أرض تبر تعشي بفاقعها
فيها ثمار، تخالها ينعت،
وليس يخشى فساد يانعها
تقطف باللحظ لا بجارحة،
الأيدي، ولا تجنى لبائعها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن