ثقافة وفن

جمال عبد الناصر والتعليم

| إسماعيل مروة

عندما أستذكر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مع قضية التعليم، ففي القلب غصة، وفي الروح نشوة عارمة، أما الغصة فتتمثل في أن كثيرين في سورية ومصر لم يكن لهم أن ينهلوا العلم، ولو بكميات قليلة لولا مجانية التعليم وقوانين الاستيعاب الجامعي، وكما نشهد اليوم عدداً كبيراً، بل أقول كل من يهاجم سورية ونظامها نعم بقانون الاستيعاب الجامعي، ولم يكن ليحمل شهادة جامعية لولا نظرة الدولة للتعليم وحق المواطن، وبعضهم أوفد وكلف الدولة مبالغ طائلة حتى أنجز أبحاثه، إن أنجز، وهو اليوم ينهش سورية ويطلب تدخلاً عسكرياً، وقد يقول لك أنا درست وتعلمت وأوفدت، أو درست في المعاهد العسكرية على نفقة السوريين، وهذا كلام صحيح، لكن الدولة التي سنت القوانين هي التي أعطتك الفرصة للدراسة والمواصلة، وسورية التي تطلب لها تدخلاً أممياً هي التي أعطتك، والسوريون الذين درست على حسابهم أذقتهم أفانين العذاب والقهر والذل!
المهم هذه الغصة دفعتني إليها الحرب التي تشن على سورية منذ سبع سنوات، وأنا أسمع من يتفاصح أو من يميل بلسانه بلكنة أجنبية، فهو ما شاء الله يتحدث لغة أخرى لم تكن له لولا سورية ودولتها، وبعبارة أدق نظامها… أنا وأبناء جيلي لم يكن لنا أن ننهل العلم لولا ما أعطانا قانون الاستيعاب وقانون المجانية، فواحدنا بدأ من الأول الابتدائي إلى الجامعة ولم يتجاوز مجموع ما دفعه ثلاثة آلاف ليرة سورية، بل كان هناك ما يسمى التعاون والنشاط بمبلغ خمس ليرات سورية يتم صرفها على الأطفال المحتاجين، ويتم تأمين مستلزماتهم كافة… أرأيتم الوفاء لبلد أخرجك من أن تكون لصاً أو متسولاً لتصبح مثقفاً؟ أرأيت لمن حن إلى التسول فتخلى عن سوريته وفرصته؟ حتى أولئك الذين يتاجرون بآلام السوريين في الداخل ينطبق عليهم ما ينطبق على من يتحدث في الخارج، كلاهما يتعامل مع سورية بقرة حلوباً..!
والغصة ذاتها تتوجه إلى التعليم عند الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فبعد أن كان التعليم مقصوراً على الموسرين، والجيش على أبناء الذوات، جاء الرئيس عبد الناصر ليشرع الأبواب لأبناء الشعب المصري لدخول الجامعات المدنية بعد أن كان الفقير لا يجد سوى الأزهر، ومنذ رحيله الصاعق والمفاجئ 1970 انبرت الأقلام الحاقدة لمهاجمته، فلم يتركوا مثلبة على مقاسه كانت أم لم تكن إلا وزرعوها في الرجل الذي كانت ابتسامته كافية لتعطير مياه النيل من منبعه إلى مصبه، ولن أعود إلى الكتب والمقالات فهي أكثر من أن تحصى في هذه الوقفة، فهذا وصفه بالطاغية وألف كتاباً في ذلك، وذلك انقلب، وثالث بدأ يتهم فيمن كتب الميثاق وسواه… وعندما رجعت إلى سيرة هؤلاء وجدتهم كلهم من أبناء الطبقات التي كانت محرومة من التعليم، وعبد الناصر ونظامه وطغيانه هو من درسهم! هو من أوفدهم! هو من تحمل عجزهم حتى وصلوا!
في عهد عبد الناصر العظيم، إن اتفقت معه أم اختلفت، صار الفقير يدخل القاهرة جامعة، وعين شمس وغيرها من الجامعات ذات التعليم المدني، وفي عهده صارت الجامعات بعدد المدن وأكثر، وفي عهده توسعت شريحة التعليم المعمق الحقيقي، وفي عهده صرنا نسمع بشكل جدي بأسماء النقاد والأعلام الذين كانوا، وفي عهده خصصت الجوائز، وفي عهده ازدهرت السينما وتفوق المسرح، وفي عهده مجلة الطليعة وكتاب الجيب، وكتاب الشعب، وفي سلسلة لا نهائية من إنجازات العلم والثقافة!
أفهم أن يعارضه الإخوان المسلمون بعدما عجزوا عن ركوب عهده وموجته وشعبيته، وأفهم أن يهاجمه أبناء الذوات الذين وجدوا الفقير إلى جوارهم ويحصل على حقه من التعليم، لكن الذي لا يمكن فهمه هو الأعم الأغلب غير المؤدلجين الذين نالوا من عبد الناصر وشخصه!
قد يكون لواحد منا مجموعة كبيرة من الملاحظ على عهد عبد الناصر، خاصة من خلال النخبة الحاكمة، وهذا أمر طبيعي وحق، ولكن الإنصاف يقتضي أن يتحدث الإنسان عن أي عهد بما له وما عليه، وأظن أن ما قدمه للثقافة والتعليم يفوق التصور، لذا ليس من حق أحد أن يتناوله بصورة غير علمية.
مشروع الرئيس جمال عبد الناصر أيها السادة كان مشروعاً سياسياً ثقافياً، فهو وبكل فخر أول من نادى بالقومية العربية في مصر، وهو أول حاكم عربي لمصر، وإن لم يكن عبد الناصر صاحب نظرية سياسية مؤدلجة مكتملة، فإنه صاحب رؤية قومية طازجة كان من الممكن أن تتطور أكثر لتصبح نظرية لو أسعف القدر بذلك، وقد غلف هذا المشروع السياسي برؤية ثقافية وعلمية متكاملة لتشكل حامل مصر والعروبة، وليس حامل الفكر الناصري… ولم يتوقف الأمر عند مصر، فعبد الناصر مع السوريين أسهم في حركة التعريب والتعليم في الجزائر، وأسهم في النهضة في منطقة الخليج عندما كانت تحتاج عوناً، وكل ذلك على حساب الدولة المصرية! أما في سورية الخاصة عند الرئيس الراحل فالأمر مختلف، وأستطيع أن أتحدث عن العلوم الإنسانية التي أعرفها فكل أساتذتنا الكبار الذين يشار إليهم وإلى علمهم درسوا في القاهرة والإسكندرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وقد قسم هؤلاء أقساماً فمنهم من قصد مصر ببعثات بعد الإعدادية ليتم تعليمه حتى الدكتوراه، ومنه بعد الثانوية، والعدد الأكبر بعد الحصول على الإجازة، وكل هؤلاء درسوا في مصر العربية وبرعاية الرئيس عبد الناصر، وعندما اختلف عدد حول أول من عاد يحمل الدكتوراه كان الدكتور شكري فيصل الذي درس في القاهرة… النسبة الكبرى من الأساتذة العلماء درسوا في القاهرة قبل أن تفتتح الدراسات العليا في جامعاتنا، وقبل أن تتوجه بعثاتنا إلى أوروبا، علماً أن البعثات إلى أوروبا كانت قبل القاهرة أيضاً ومنذ الحرب العالمية الأولى، لكن الذي دفع إلى هذا الحديث ما أسمعه من بعض الأساتذة عن انتقادات كذلك لعهد عبد الناصر، وهم الذين درسوا في القاهرة، وبسبب من منحه وبعثاته، بل طبعوا كتبهم في القاهرة وفي ذلك الوقت البعيد.
لا تذهب من الخاطر تلك الصورة القريبة البعيدة، ففي حلب العظيمة، عادت أيامها أجمل، قصدت أستاذي الدكتور الراحل نعيم اليافي في بيته في محطة بغداد، وتقابلك في صدر المكتبة صورة للرئيس جمال عبد الناصر وهو يصافح اليافي ويقدم له شهادته الجامعية، وحين سألته قال: كان جمال عبد الناصر يسلم الشهادات بنفسه، وربما كان اليافي من القلة الذين احتفظوا بهذه الصورة الذكرى.
لقد كان مشروع جمال عبد الناصر علمياً تعليمياً ثقافياً تنويرياً، ومهما حاول بعضهم أن ينال منه فإنه لابد أن يعود إلى ذاته ليستذكر شهادته أو شهادة والده، أو شهادة أحد أساتذته، ومن يزرع العلم فإنه لابد أنه سيكون من الأهمية بمكان، ولابد أن نياته بناء وطن وإنسان… ولو أردنا أن نكون منصفين فعلينا أن ننظر إلى توسع الشريحة التعليمية والثقافية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكيف استطاع أن يوصل العلم إلى أبعد القرى والغيطان لإيمانه بالعلم وأهميته، وليس كما يدعي المؤدلجون لنزع الفلاح من أرضه وغيطانه… ووصلت مصر إلى درجة عليا من تجاوز الأمية التي ذبحت المجتمع ودمرته، وكذلك الأمر في سورية، فقد احتفلت سورية قبل أكثر من عقدين من الزمن بانتهاء الأمية فيها، وصارت سورية تباهي بأن نسبة التعليم فيها عليا، وأن الأمية تقترب من الصفر… واليوم ولدوافع سلطوية داخلية وخارجية أعادت الحرب على سورية سورية إلى الوراء، فبعد أن انتهت الأمية عدنا لنجد أن عدداً لا يستهان به من الطلبة في عهد التعليم قد فقدوا فرصة التعليم، وها هم يرفعون شعار (حقي أن أتعلم)… إن المشروع الثقافي هو مشروع تنويري مستقبلي، ويؤدي إلى نهضة حتمية تراكمية، سواء كان هذا المشروع قادماً من نظام ديمقراطي أم من نظام فردي، فهو مشروع حيوي وعظيم لا يقوم به إلا من أراد خير الإنسان والوطن.
رحم الله جمال عبد الناصر، وقد قدّم مشروعاً ثقافياً نادراً في تاريخنا العربي، ولم يكن له من شبيه سوى المشروع السوري، وكلا المشروعين أريد له أن يجهض، ولكن الإيمان بالثقافة يجعلنا نقول: إن هذا المشروع سينتفض ليكون أولاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن