قضايا وآراء

السودان: بداية تموضع جديد

| عبد المنعم علي عيسى

شكلت الحرب الشمالية الجنوبية في السودان المندلعة بزخم منذ العام 2003، رحماً استولدت منه دولة جنوب السودان في تموز من العام 2011.
كانت البصمات الأميركية وكذا الإسرائيلية بادية بوضوح في تلك الحرب، وربما وجد الرئيس السوداني عمر البشير نفسه في أعقاب مناخات أيلول 2001، مضطراً إلى تسليم ما لديه تماماً كما فعل جاره الرئيس الليبي السابق معمر القذافي عندما قام بتسليم برنامجه النووي إلى الأميركيين أملاً في أن يشكل ذلك عامل حماية لنظامه، فهو الآخر ذهب نحو التوقيع على معاهدة «نيفاشا» العام 2005 التي مهدت للاستفتاء الذي أجراه الجنوب حول حق تقرير المصير في كانون الثاني من العام 2011 وصولاً إلى الانفصال والإعلان عن ولادة دولة جنوب السودان في تموز من العام نفسه.
هدف ذلك النموذج إلى أمرين اثنين: الأول تقليص العمق الإستراتيجي المصري الذي يمثله السودان الموحد وصولاً إلى محاصرة الدور المصري إفريقياً بعد أن تم احتواؤه عربياً، الأمر الذي تبدت إحدى محطاته إلى الآن في إنشاء سد النهضة الإثيوبي على النيل والمؤكد أن مصر، والعرب، لم يكونوا قارئين جيدين لما جرى في السودان، وإلا لما كانوا قد قاموا بدعوة دولة جنوب السودان الوليدة للانضمام إلى جامعة الدول العربية، والثاني هو أن تمثل الخطوة «الجنوب سودانية» عاملاً محفزاً لحدوث تشظيات أخرى داخل السودان فنجاح الجنوبيين في تحقيق مراميهم عبر حمل السلاح، من شأنه أن يعطي دافعاً قويا للكثيرين لاستخدام الطريق نفسه في سبيل تحقيق مآربهم.
كانت المناخات التي قادت إلى تهيئة الأرضية المناسبة للتحولات التي شهدها، وسيشهدها، السودان لاحقاً، قد تولدت عبر عاملين اثنين أولهما: هو انتهاء الحرب العالمية الباردة في العام 1989 والمتغيرات التي حملتها المرحلة التي تلتها، وثانيهما هو وصول «الجبهة القومية الإسلامية» إلى السلطة في الخرطوم في العام نفسه، في أعقاب الانقلاب الذي قاده الجنرال عمر البشير في حزيران منه، الأمر الذي أدى إلى بروز مخاوف عديدة لدى الجنوبيين ذوي الأغلبية المسيحية تجاه حكم إسلامي متشدد يستمد إيديولوجيته من العقيدة الإخوانية التي ستجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية بالتأكيد، وفي مقلب آخر كان انقلاب البشير قد أغضب تل أبيب انطلاقاً من أنه أزاح «الصادق المهدي» رئيس حزب الأمة عن السلطة، ومن المعروف أن هذا الأخير من أوائل الأحزاب العربية التي فتحت قنوات لها مع تل أبيب بدءاً من العام 1954، ولذا فقد تكاثفت الغيوم في سماء نظام البشير حتى أصبح الغرب والأميركيون بانتظار أي هفوة يمكن أن تصدر عنه أو يمكن له أن يكون على تماس بها، وفي أعقاب محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الرئيس المصري السابق حسني مبارك في أديس أبابا العام 1995، وضع السودان على لوائح الإرهاب الأميركية، وعندما جرى استهداف سفارتي أميركا في كينيا وتنزانيا العام 1998 ردت واشنطن بعد أسبوعين فقط بقصف مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم، ثم جاء القرار بإشعال جبهة الجنوب.
يقول التاريخ السوداني الحديث: إن إسرائيل كثيراً ما حاولت التقرب إلى العديد من القيادات السودانية وصولاً إلى رأس هرم السلطة عندما تتطلب المصالح الإسرائيلية ذلك، ففي مطلع الثمانينيات من القرن الماضي كان السودان ممراً لا بديل منه لترحيل «الفالاشا» أي اليهود الأفارقة من بلدانهم إلى إسرائيل، وفي هذا السياق التقى الرئيس السوداني السابق جعفر النميري بوزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون في نيروبي العام 1983 بوساطة من تاجر السلاح السعودي عدنان خاشقجي الذي استضافهما في قصره فيها، يروي ضابط الموساد السابق فيكتور أوستروفسكي في كتابه «عن طريق الخداع» الذي نشره في العام 1990 من كندا بعد نجاحه في الهروب إليها، أن النميري كان قد حصل على ضمانات باستمرار حكمه لقاء الدور المساعد الذي سيلعبه في ملف الفالاشا، ويضيف: كان يحصل على الكثير من العمولات الناتجة من صفقات تجارة الأسلحة التي كان شارون يقوم بها وهو على رأس عمله في وزارة الدفاع الإسرائيلية، إلا أن ذلك كله لم يكن كافياً للوقوف إلى جانبه أو حماية نظامه من السقوط العام 1985 بعدما انتهى الدور الذي كان مطلوباً منه ما جعل منه عبئاً لا مبرر كافياً لاستمرار حمله أو الدفاع عنه.
مضى اليوم على تفاهم البشير مع الأميركيين غير المعلن، ست سنوات، ففي أعقاب الدور الذي أداه في انفصال الجنوب طويت مذكرة محكمة الجنايات الصادرة بحقه العام 2009 بتهم ارتكابه مجازر أو جرائم حرب في دارفور، ولم يحدث أن أثيرت الزوابع بوجهه انطلاقاً من «الدعم الذي يقدمه للإرهاب» كما كانت واشنطن تقول، وفي هذه المناخات استعاد نظام البشير الكثير من عافيته وبدا أكثر قدرة على الحراك في العديد من الاتجاهات لنراه يقيم تحالفاً قوياً مع الرياض وصل إلى حدود إرسال 7000 جندي سوداني للقتال تحت راية «عاصفة الحزم» السعودية في اليمن بدءاً من العام 2015، ناهيك عن الدعم الذي كان يقابل به المواقف السعودية وهي في بعض منها لا تخدم المصالح السودانية، إلا أن هذا المسار قد أصابه كما يبدو انحرافاً بدا وكأن البشير مضطر إليه وهو ما تجلى بوضوح في الزيارة التي قام بها إلى سوتشي للقاء الرئيس الروسي فيها الأسبوع الأخير من الشهر المنصرم، والحديث الذي أدلى به إلى وكالة «سبوتنيك» الروسية في أعقابها وفيه بدا واضحاً أنه الآن يقف على مفترق طرق فقد قام بتوجيه اتهاماته من جديد إلى الولايات المتحدة التي قال إنها تسعى إلى تقسيم السودان إلى خمسة كيانات أخرى، وهذا بالمناسبة هو الأساس الذي تقوم عليه اتفاقية نيفاشا، ولذا فإن الخطأ الذي ارتكبه البشير في هذا السياق يبدو كارثياً فالتغاضي الأميركي يمكن أن يشمل غض الطرف عن مذكرة توقيف بحقه، إلا أنه لا يشمل بالتأكيد التراجع عن المخططات الموضوعة للسودان أو للمنطقة، وعليه فإن الخطوات التي قام، وسيقوم، بها لاحقاً وهي تهدف إلى إنهاء تفاهمه مع الأميركيين ومع السعوديين بالضرورة تبدو وكأنها غير ذات جدوى، وهو حتى ولو قام بكل شيء يطلب منه فإن الحصول على المكافأة يتطلب القيام بما هو أكثر، وفي ذاك يقول المغرد السعودي الشهير «مجتهد»: إن البشير عندما طالب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالمليارات الموعودة أجابه هذا الأخير: إن من الواجب عليه أن يقوم بقطع علاقاته مع قطر قبيل أن يحصل على «عطاياه» التي لم يحصل على قرش منها حتى الآن.
لربما يريد الرئيس السوداني ترك حلفاءه السابقين قبيل أن يعلن هؤلاء فك تحالفهم معه، والذرائع سلسلة لا تنتهي، والراجح أن البشير يستقرئ مخططاً أميركياً جديداً يعد للسودان وهو يغيب عن المشهد فيه ما يفسر محاولات الالتفاف التي يقوم، أو يلوح، بها هذا إن لم يكن الوقت قد تأخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن