قضايا وآراء

المشروعيات التائهة في جنيف

| مازن بلال

تحديد المساحة المتاحة في جنيف للتفاوض تحتاج لقراءة مختلفة بعد التحولات العنيفة التي شهدتها العلاقات الإقليمية، ففي الجولة الأولى التي غاب عنها السوريون تم تحديد مبادئ مرتبطة أساسا بنوعية العلاقات التي كانت قائمة، وعلى الأخص بين ثلاث عواصم أساسية: الرياض وأنقرة والدوحة، ورغم الاشتباك القوي على المستوى الدولي، لكن نقاط الارتكاز كانت محلية لأبعد الحدود، ورغم أن الدول الثلاث الأساسية المنخرطة في الصراع في سورية، لم تكن تملك تحالفات محددة، لكنها كانت تؤسس عبر محاولة تفتيت الدولة السورية التأسيس لواقع إقليمي جديد.
ما حدث خلال السنوات السابقة بدل وبشكل جذري من قيمة العلاقات الإقليمية المرافقة لتصاعد الأزمة السورية، فأنقرة لم تعد مهتمة كما كانت سابقا برسم حدود «حديقتها الخلفية» بناء على تمايز في العلاقة مع ما يمكن أن نسميه «دول الإسناد» العربية مثل السعودية وقطر، وربما اكتشفت من جديد أن قيمة تفاهماتها مع إيران ستؤمن لها الأبعاد الحقيقية لأمنها ودورها الإقليمي، ووفق هذا التحول ظهرت لقاءات أستانا، وكأنها المحرك الأساسي لأي تطور على المستوى الإقليمي، ولكن في المقابل فإن الزمن الفاصل ما بين «جنيف1» واللقاءات الأولى في أستانا أسس لمشروعيات على مستوى التفاوض لا تزال قائمة حتى اليوم، والملاحظة الأساسية أن الرياض التي أسست لـ«مشروعيات» على مستوى المعارضة عبر «الهيئة العليا للتفاوض»؛ تحاول إعادة تأسيس هذا الأمر من خلال أمرين:
1- الأول: الاستفادة من عدم قدرة المجتمع الدولي على فهم طبيعة القوى السياسية في الداخل السوري، وذلك نتيجة الانقطاع الطويل عما يجري منذ عام 2011، وهي بذلك تسعى لإعادة تعريف المعارضة السورية وفق رؤيتها.
إن ما حدث في لقاء «الرياض2» لا يعتبر تكريساً لرؤية السعودية في المراحل السابقة؛ بل يمكن النظر إليه على أنه إعادة هيكلة لهذه «المشروعيات» التي ظهرت في مرحلة سابقة، وتصميم الوفد المعارض وفق معايير قلقة لأبعد الحدود، وبالتأكيد فإن مخرجات «الرياض2» كانت وفداً يملك حلقة مرنة عبر أعضاء من منصة موسكو، فهي تراهن على هذه الحلقة لتأسيس مساحات جديدة بعيدة عن شروط المعادلة السياسية للداخل السوري.
2- الأمر الثاني: هو محاولة استبعاد إمكانية التأسيس لشرط الحوار السوري، فعندما طرحت موسكو مؤتمرا في سوتشي، فإنها كانت تعرف أن مثل هذا اللقاء ربما لا يطرح مخرجات مباشرة، ولكنه يكسر القواعد التي سار عليها جنيف من دون أي تبدل طوال السنوات الثلاث الماضية.
لم تكن الرياض أو غيرها من العواصم الإقليمية أو حتى الدولية، تخشى من مخرجات سوتشي المباشرة، بل من فكرة تجميع السوريين خارج القاعدة التي استند إليها جنيف منذ جولاته الأولى، فهناك احتمالات لتفعيل حركة القوى السياسية في الداخل السوري، أو حتى في الخارج، وذلك لمجرد احتمال طرح لقاء هو الأوسع منذ بداية الأزمة السورية.
تم تأجيل مؤتمر سوتشي حتى العام القادم، لكنه في الوقت نفسه ارتبط بشكل أقوى بعلاقة المثلث الأكثر فاعلية: أنقرة وطهران وموسكو، وهو بذلك يرتبط بمساحة كانت فاعلة في تهدئة الوضع، وفي الوقت نفسه فهو يستند وبشكل وثيق لاحتمالات تفعيل القوى السياسية الموجودة خارج إطار العملية السياسية.
المسألة ليست الرهان على سوتشي أو جنيف، بل إعادة النظر بتلك «المشروعيات» التي تفاوض على مستقبل سورية نيابة عن مجتمع عانى خلال سنوات سبع أعنف حرب في تاريخه الحديث، فهذه «المشروعيات» لا تعاني أزمة التمثيل فقط، بل الجمود السياسي الذي ينتظر لحظات تطور التفاوض لاختبار الحلول، على حين لا يمكن للحل السياسي أن يظهر إلا عبر «الحيوية» التي تنسج علاقات سياسية على مستوى مختلف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن