ثقافة وفن

كان يا ما كان في قديم الزمان … عربات «الديليجانس» تنطلق من دمشق إلى بيروت لتقطع المسافة بثلاث عشرة ساعة

| شمس الدين العجلاني

تغير الزمان والمكان، وبقيت الأصالة والعراقة والحضارة، هذه هي حال بلادنا في بعض وجوهها.
منذ كنا صغاراً ونحن نسمع من أهلنا عندما كانوا يريدون قص حكاية لنا: «كان يا ما كان في قديم الزمان» ومن ثم يروون الحكاية.. ونعيد هنا قصصاً وحكايات كانت في دمشق واندثرت لأسباب كثيرة أهمها التطور الذي طرأ على بلادنا، أو لأسباب أخرى… ونقول كان يا ما كان:

أيام زمان لم يكن في الشام وسائط النقل المعروفة اليوم، فكانت الحيوانات وأهمها الحمير هي وسيلة النقل الناجحة، واشتهر في بلاد الشام العديد من الحمير التي كان يستعملها الأعيان وأصحاب الشأن فكان هنالك حمارة حسني تللو المعروف بأبي الخير آغا تللو، وأبو الخير من وجوه دمشق المعروفة، وحمارة الحاج علي أفندي الجندي رئيس بلدية حمص، وحمارة وزير المالية بدمشق في العشرينيات من القرن الماضي جلال زهدي، وحمارة حسين آغا أحد أعضاء حزب الإصلاح الذي أسسه حقي العظم، وحمارة حسن أفندي مفوض الشرطة في مدينة طرابلس…
وتطور الحال وأوجدت العربات التي تجرها الخيول أو البغال، وكانت تجتمع وتنطلق هذه العربات من مرج الحشيش «أرض معرض دمشق الدولي القديم» ومن ساحة المرجة، وكان يعتمد عليها في أكثر الحالات في نقل المرضى أو التنقل بين الريف والمدينة، إضافة لعدد من العربات التي كان يملكها الأعيان وأصحاب المناصب في الدولة، وكان هنالك بدمشق سوق خاص للخيل «سوق الخيل» لبيع الخيول والحمير والبغال، أو تأجيرها.

عربات «الديليجانس»
كان السفر بين المدن الشامية، والدول المجاورة، وبقصد الحج، يحتاج إلى مشقة كبيرة، ويتطلب الكثير من العناء والوقت والخطورة من قطاع الطرق. وكان يتم بما كان يسمى آنذاك عربات «الديليجانس» وهي كلمة فرنسية تعني العربة التي يجرها الخيل، وأحياناً أطلق عليها اسم «الحنتور»، هي عربة كبيرة يجرها ستة خيول أو بغال «وتتسع لثمانية ركاب» بينما يقول قتيبة الشهابي إنها تتسع ما بين 10 إلى 15 راكباً، ورد في بعض المصادر أن هذه العربات مؤلفة من طابقين. ويتم تبديل هذه الخيول والبغال أكثر من عشر مرات أثناء السفر من محطات موجودة على الطرقات، وهي لنقل المسافرين، وكان هنالك أيضاً عربات أخرى تسمى «كارو» لنقل البضائع تسير بشكل قوافل تتألف كل منها من 25 إلى 30 عربة. وعربات «الديليجانس» تشبه عربات أفلام الغرب الأميركي التي كنا نشاهدها في افلام «الكابوي». بيضوية الشكل ومغطاة بقماش خاص.
وأسس لهذه الغاية شركة اسمها «الديليجانس» وهي الأشهر في بلاد الشام، وكان في دمشق أيضاً شركة أخرى اسمها شركة السبيعي وكان مقرهما في منطقة العباسية، لم تنل شهرة شركة «الديليجانس».

عربات «الديليجانس»
بين دمشق وبيروت
في عام 1863م انطلقت أوّل عربة من عربات «الديليجانس» بين مدينتي دمشق وبيروت. وكانت شركة فرنسية بلجيكية مساهمة اسمها «الشركة الإمبريالية العثمانية لطريق دمشق بيروت» قد قامت عام 1858م بتعبيد طريق دمشق– بيروت بطول 112 كيلو متراً، وأشرف عليه (الكونت إدوارد دي برتوي) وهو ضابط في القيادة العامة في البحرية التجارية الفرنسية، وأيضاً قيل إن الكونت إدوار دي برتوي، هو من أسس الشركة مع مجموعة من أصدقائه.
على حين تذكر بعض المصادر التاريخية أن شركة «طريق الشام العُثمانية» هي التي قامت بتعبيد طريق دمشق– بيروت، وعدة طرق أخرى في دمشق وبيروت بلغ طولها 174 كلم وعرضها 7 أمتار، وقد بدأ العمل في هذا الطريق عام 1859 وانتهى عام 1863. تحت إشراف مهندس فرنسي عرف باسم «ديمان».
كان مركز انطلاق عربات «الديليجانس» في دمشق من جسر فيكتوريا من موقع كان أهل الشام يسمونه (كبّانية) وهو حالياً مكان المصرف التجاري السوري– الفرع 5، وقيل إن مقر تجمعها وانطلاقها كان مكان فندق سمير اميس الآن وهذا ما أكده علي الطنطاوي.
استمرت شركة «الديليجانس» بالسيطرة على طرقات السفر في بلاد الشام إلى حين إنشاء الخط الحجازي الحديدي بين دمشق بيروت: فتراجع مستوى عملها إلى أن اضمحلت واشترى العثمانيون ممتلكات شركة «الديليجانس» من أراض وممتلكات ومحطات في سورية ولبنان، وأوقفت للخط الحجازي، ولم تزل حتى الآن وقفاً.
كانت المحطة الأولى لاستراحة عربات «الديليجانس» في أول الربوة تحت صخرة المنشار الشهيرة حتى الآن التي كتب فوقها أحد العشاق عبارة «اذكريني دائماً» والثانية في طلعة «الهامة» مقابل معمل بيرة الشرق وما زالت آثارها ظاهرة للعين حتى الآن، تليها المحطة الثالثة في منتصف طريق الصحراء مكان نادي الرماية الآن، ثم الرابعة في خان ميسلون المعروف، والخامسة في موضع يقال له «عقبة الطين» وهو المكان الذي استشهد فيه البطل يوسف العظمة، والسادسة في «وادي الحرير».. إلى أن تصل إلى مدينة شتورا المحطة الأساسية لعربات «الديليجانس» لتبديل الخيول والبغال وتقديم الخدمات لها وللمسافرين، ومبنى المحطة في شتورا لم يزل قائماً حتى الآن، وتحول إلى مصرف تجاري بعد ترميمه أكثر من مرة.
محطات الاستراحة كانت تضم أيضاً عدداً من الموظفين يقومون باستيفاء رسوم معينة من المسافرين الذين يمرون على الطرقات والجسور على الأنهار والوديان التي أنشأتها الشركة. وقبل وصولها إلى شتورا كانت تقف في عدة محطات في الهامة، وصحراء الديماس، وميسلون، ووادي القرن، ووادي الحرير…. كانت عربات «الديليجانس» تنطلق من دمشق إلى بيروت لتقطع المسافة بثلاث عشرة ساعة! ثم في وقت لاحق بست ساعات، وتنطلق من طرابلس إلى حمص عند منتصف الليل لتصل حمص بعد غروب شمس اليوم التالي نظراً لصعوبة طريق حمص طرابلس بالمقارنة مع طريق دمشق بيروت.. أما السفر بين طرابلس وبيروت فكان حتى العام 1909 عن طريق عربات «الديليجانس» وكانت الرحلة تستغرق 16 ساعة.

عربات «الديليجانس»
بين دمشق والزبداني
قبل عام 1858م وقبل تعبيد وإصلاح الطرق من شركة «الديليجانس» لم يكن الطريق من الزبداني إلى دمشق يمر بالربوة كما هو الحال الآن بسبب الأنهار الكثيرة، والطبيعة الجغرافية للمنطقة، وكان المسافرون القادمون والمغادرون يصعدون من دمر نحو جبل قاسيون ويبلغون قبة السيار ثم يهبطون من العقبة التي كانت تدعى عقبة دمر نحو حي المهاجرين الحالي، وبقي هذا الأمر سنوات طويلة حتى عام 1858م حيث مدت شركة «الديليجانس» الفرنسية الطريق المعبد من دمشق إلى بيروت فجعلته يمر من مضيق الربوة (وهو مضيق بين جبلين)، وذلك بجانب خط السكة الحديدية الذي أُنشئ عام 1895م.
وصف ذاك الطريق الجبلي الوعر الشاعر الفرنسي لامارتين حين زار دمشق قادماً من بعلبك في شهر نيسان من عام 1833م فقال في كتابه «رحلة إلى الشرق»: «في 1 نيسان 1833م. في الساعة السادسة صباحاً امتطينا الخيل وشرعنا في رحلتنا (من بعلبك إلى دمشق) من دون توقف فيما بين جبال جرداء شاهقة المنحدر ولا يفصلها عن بعضها سوى شعاب ضيقة حيث تجري سيول من ذوبان الثلج، لا شجر ولا نَمِيص. أشكال تلك الجبال المفتتة غريبة تمثل آثاراً بشرية، منها أثر عال ضخم شاقولي المرتقى من جميع الجهات مثل هرم. قد يبلغ محيطه فرسخاً ولا يستطيع أحد أن يكتشف كيف تمكن الناس من تسلقه. فما من أثر ظاهر لدرب أو درجات مع أن أيادي بشرية حفرت مغائر من جميع القياسات في جميع منحدراته. تركنا هذا الجبل إلى شمالنا وما لبث أن صار خلفنا وهبطنا بسرعة من خلال منخفضات عسير سلوكها إلى واد أعرض وأكثر انفتاحاً يجري فيه نهر. وبدأت تظهر لأعيننا على جانبيه من خلال شقوق الصخور التي تحف بالنهر أشجار الصفصاف والحور وأشجار مختلفة كثيرة أخرى أغصانها متشابكة بصورة غريبة، أوراقها سوداء. سرنا وتلك الضفاف ساعات مفتونين ونحن ننحدر من دون أن نلاحظ ذلك. النهر يرافقنا وهو يخر ويزبد تحت أرجل خيلنا. الجبال العالية التي تشكل الشعب حيث يسيل النهر تبتعد وتتكور فتتحول إلى تلال عريضة مشجرة تلقي عليها الشمس الغاربة أشعتها، إنها أول منفذ إلى ما بين النهرين: صرنا نرى أودية فسيحة تنفتح شيئاً فشيئاً على سهل الصحراء الكبير ما بين دمشق وبغداد. الوادي حيث كنا أخذ يتسع والماء يجري فيه ببطء. وبدأنا نلمح على يمين النهر وشماله بقايا زرع ونسمع أصوات قطعان بعيدة…».
وحين مدت شركة حافلات «الديليجانس» الطريق المعبد بين دمشق وبيروت اشترت من محمد باشا اليوسف الزيركي قطعة أرض على الطريق في منطقة جديدة يابوس وبنت خاناً ليكون استراحة للمسافرين ومكان تقديم خدمات للعربات والخيول أو البغال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن