ثقافة وفن

كوعلٍ في الغابة روى أساطيره اليومية … رياض الصالح الحسين… بسيطٌ كالماء واضحٌ كطلقةِ مسدّس

| أحمد محمد السّح

أطل رياض الصالح الحسين على المشهد الشعري عام 1979 من خلال مجموعته الأولى «خراب الدورة الدموية» وعمره وقتها خمسة وعشرون عاماً، أراد وقتها أن يطلق صرخته الأولى بمجموعةٍ من القصائد الطويلة، وعندما أقول طويلة فنحن نحكي عن قصائد تتربع على عدد من الصفحات، بجملٍ شعريةٍ طويلة، لا بحروف متناثرة هنا وهناك كما درج الآن وقبل ذلك في قصيدة النثر، بل على العكس، كان رياض الحسين يتقن قصيدة النثر ويعرف كيف يميّز الكلام العادي من القصيدة، فهو شاعرٌ يخلقُ القصيدة من يوميات الصورة التي يتابعها، وهو الشاعر الأصم الذي أصابته الإعاقة في صغره، وتحديدًا عندما كان عمره 13 عامًا، حينها فقدَ رياضُ قدرته على السمع والنطق إثر جراحةٍ ولم يُكمل تعليمه. في خراب الدورة الدموية عرّف عن نفسهِ وحاور قارئه كثيراً، ففي قصيدةٍ له كتبها وعمره اثنان وعشرون عاماً كتب:

(أيتها السكاكينُ المسكينةُ
أيها الحبُّ الإنساني القذر
أيتها الكلاب المعبأةُ بالمقانق والمحبة وعبير النعناع
أنا رياض الصالح الحسين
عمري اثنتان وعشرون برتقالةً قاحلة
ومئات المجازر والانقلابات
وللمرة الألف يداي مبادتان)
يبدو الشاعر في هذا المقطع تحديداً تلميذاً نجيباً في المدرسة الماغوطية، فهذه النداءات اللاذعة كان الشاعر محمد الماغوط قد أصر على استخدامها على الرغم من انتقادات النقاد له، وخاصة الناقدة خالدة سعيد لكنه جعلها بصمةً خاصة في مدرسته الشعرية، كما أن رياض الحسين تميز بطول جملته الشعرية، فقد كان قادراً على امتلاك نفس شعري طويل ويبتعد عن التقطيعات الخاطئة التي يمارسها شعراء قصيدة النثر بالانتقال بالنبرة الشعرية من دون مسوغات ومن دون نبرة إلا أن الحسين تميّز باستكمال عبارته حتى آخر نفس كما قصيدته «مارسيليز العصر النيوتروني»:
(في عصر الحب البلاستيكي والقلوب البلاستيكية
ثمة قطاراتٌ تذهب بالجنود إلى الموت في الأعياد
وثمة مهرجون يبكون على أنفسهم سرّاً
ويُضحكون الآخرين على الحلبة)
سميت قصيدة رياض الصالح الحسين بقصيدة التفاصيل اليومية، وربما يعود ذلك بشكل واضح إلى مجموعته الثانية «أساطير يومية عام 1980» التي ظهر فيها شاعراً راصداً لما يحدث حوله، وقارئاً نهماً ومطلعاً جيداً عبر وسائل الإعلام على ما يحدث في العالم، فبنى قصيدته اعتماداً على هذه التفاصيل والالتقاطات، وقد رافقته هذه الميزة عبر مجموعاته الشعرية الأربع لكنها تكرست في أساطير يومية كسمةٍ التصقت بشعره عرفها أصدقاؤه، ولاحقاً انتبه إليها دارسو شعره، في قصيدته «الكلمة الأخيرة»:
(عن الحب والأحذية والإمبريالية
عن حليب الماعز وحليب الأمهات
عن جدول ضرب الموتى وعمليات تقسيم الجثث
عن الأوطان البعيدة والوطن القريب
عن كومونة باريس وصناعة المرطبات
وثياب الهبيين وعلي كتخدا…
كتبتُ وكتبتُ وكسرتُ الأقلام)
جاءت بعدها المجموعة الشعرية الثالثة «بسيطٌ كالماء واضحٌ كطلقة مسدس – عام1982» كان لهذه المجموعة انتشارها الأوسع وتكريسها لاسم رياض الصالح الحسين شارعاً علامةً في قصيدة النثر، وأباً حنوناً لقصيدة التفاصيل اليومية، عنوان هذه المجموعة بدا وكأنه ربط شعري لشخص رياض الصالح الحسين وللغته الشعرية أيضاً، البسيطة والواضحة، ولربما أستطيع أن أضيف من دون خوف، العميقة كذلك. هذه المجموعة هي الأولى التي يصدرها الشاعر لدى دار نشر خاصة بعد أن كانت سابقاتها من منشورات وزارة الثقافة، وهي المجموعة التي قدّم لها سعدي يوسف حيث يمر مروراً مهماً على تجربة الصالح الحسين كاملةً ويفرد الصفحات لمناقشة تفاصيل قصيدته ويمر على كل مجموعة على حدة، وعن هذه يقول سعدي يوسف:
( تستغرق المجموعة ثلاثة أقسام: تفاصيل– انفجارات– يوميات، وربما كان الأقرب إلى الحقيقة أن يتواجه في المجموعة تفاصيل ويوميات إزاء انفجارات)، هنا يكشف لنا سعدي يوسف سمة الانفجارات التي تظهر في هذه المجموعة وهي فصلٌ فيها وسمةٌ في الشعر بعد أن تمرّس الصالح الحسين على لغة اليوميات والحوارات مع الآخر، فهو يتخيل دائماً رغبته في أن يحكي لآخر، أو يتحدث إلى امرأة، تقول له ويقول لها من خلال قصيدته، فيصور من خلال لغته الشعرية المحيط والتفاصيل والجورات، لذا يمكن أن نقول: إن قصيدته هي سيناريو متكامل فيه كل مضامين السيناريو وسماته، ومن هذه المجموعة «أيتها الأحجار استمعي إلى الموسيقا» يقول:
(غداً صديق قديم:
«إنهم يموتون بالآلاف في سجون سنتياغو»
غداً ، فلكي عجوزٌ:
«برج الحوت سيذهب إلى الجحيم»
غداً، فلاحةٌ طويلة:
«الأمطار قليلة هذا العام»
غداً..
رسالة إلى امرأة مجهولة:
«أريد أن أحدثك طوال شهر أيلول»)
تعتبر قراءة تجربة رياض الصالح الحسين ومتابعة تناميها أمراً متنامياً بحد ذاته مع كل قصيدة، وهذا هو الأصعب للإحاطة بسماته كشاعرٍ مختلف باختلاف كل لحظة، لكنه يعرف وجهة بوصلته وانحيازه للحب ولقلبه الجريح، وانتصاره للإنسان.. كانت هذه المجموعة هي آخر مجموعة تصدر وهو على قيد الحياة، لتصدر بعدها مجموعته الأخيرة بعد موته الذي وافق 21/11/1982 ، إثر خطأ طبي غامض في مشفى المواساة في دمشق، ولكنه كان قد نضّد مجموعته الأخيرة التي ستصدر بعد موته عن وزارة الثقافة، ويضع لها عنوانها «وعلٌ في الغابة» ففي مدخل المجموعة يصف «غرفة الشاعر»:
(ماذا يأخذ من جثث الأيام
وماذا يترك
غير قصائد ذابلة
وغبار الكلمات
وبعد قليل
سوف يداهمه الشرطيّ
ليسأله عن جمل غامضةٍ
ويحذّره من استعمال «القبلة» و«القنبلة»)
هنا جملة الشاعر باتت أقصر، وقصائده كذلك أقصر،حتى عناوين القصائد باتت كلمة واحدة أو كلمتين، بعد أن كانت جملاً شعريةً طويلة تخلق الصدمة للقارئ فتشده إليها، لكن الصالح الحسين لم يفقد فكره الشعري، ولم يفقد عينه الفاحصة ورغبته الكاملة في وصف كل ما يراه أمامه وفق رؤيته، ولم يكتف بالوصف فقط، ولربما لو أردنا أن نسرح في خيالنا لتم تفسير سهاب فيه.. وعن «الحب» يكتب:
(الحب ليس أغنية جميلة
نتعلمها بغتةً، وننساها بغتةً
كما ننسى عندما نكبر
الطفولة واللعب وحليب الأمهات
الحب…
شهادةُ ولادةٍ دائمة
نحملها برأسٍ مرفوع
لنخترق شارع المذبحة)
عام 2015 فوجئت حين كانت الأعمال الكاملة لرياض الصالح الحسين تتصدر أعلى قوائم المبيعات، وقتها كان لا بدّ أن تحل ذكرى رياض الصالح الحسين الذي عانى ما عانه في حياته، لكنه كان قليل الشكوى، يخبرك محدثوه ومعاصروه أنه كان متحفظاً حول حياته الشخصية، مخفياً عوالمه، لكنه يعرضها في قصيدته، وهو الذي يتكلم في الشعر من دون سواه الذي عاش لأجله، ومات بتفصيل من تفاصيل الحياة اليومية، خطأٌ طبيٌّ تافه غيب شاعراً كانت قصيدته كاميرا للتفاصيل اليومية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن