قضايا وآراء

نقل السفارة الأميركية.. خلفية المشهد

| عبد المنعم علي عيسى

أن يعترف الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، فتلك واقعة كانت قادمة لا محالة، فالكونغرس الأميركي كان قد اتخذ قرارا بذلك منذ العام 1995، فيما كان الرؤساء المتعاقبون بعد هذا التاريخ يقومون بتوقيع تأجيل التنفيذ كل ستة أشهر انطلاقا من المصلحة القومية العليا للبلاد كما كانوا يقولون، وأن نذهب نحن إلى قراءة ما جرى فذاك أمر مهم، وفي الأيام الماضية كانت التحليلات تمضي في شرح دوافع الحدث وقد كثرت الشروحات، منها مثلا من قال إن ترامب بذلك إنما أراد إرضاء ابنته ايفانكا وصهره كوشنر اليهوديين، فيما قال البعض إن ترامب واقع تحت تأثير الثلاثي السفير الأميركي بتل أبيب ديفيد فريدمان ومبعوث الشرق الأوسط جيسون جرينيلات والملياردير اليهودي المعروف شلبل أندرسون، وإن ترامب يرى هو ودائرته الضيقة، ووزارتا الخارجية والدفاع ليسا منها، أن حال الوهن العربي هو في حدوده القصوى والفرصة سانحة لاتخاذ قرار «شجاع» عزف إسلافه عن أن يتخذوه، والمؤكد أن كل هذه الدوافع صحيحة إلا أنها تمثل «الهدية» فقط فتقديم باقة من الزهور غالبا ما تكون مناسبته أو الذكرى التي يقدم لأجلها هي الأهم بكثير من تلك الهدية بالتأكيد.
كان قيام إسرائيل في أيار من العام 1948، باعتبارها دولة تتحدد هويتها عبر الدين، يمثل مؤشرا لانطلاق موجة تدين بعد أن سادت العلمانية والليبرالية عقود النصف الأول من القرن العشرين، حيث ستؤدي الكثير من الأحداث إلى المضي قدما في تلك الانطلاقة فالمنطقة أصلاً تتجاذبها عشرات الأساطير وتتصارع فيها الآلهة كما لا يوجد في أي من بقاع العالم، ثم جاءت هزيمة المشروع القومي العربي في حزيران 1967 لترى الذات الجماعية العربية أن مشروعا يرفع التوراة راية له لا يمكن مواجهته سوى بمشروع يرفع القرآن، الأمر الذي تمظهر في المد الديني الإخواني الذي شهدته المنطقة وفي مصر وسورية تحديدا، طوال عقد السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وان لم ينجح أي منهما في الوصول إلى سدة السلطة في كل من دمشق أو القاهرة، كما تمظهر أيضاً في انتصار الثورة الإسلامية في طهران عام 1979، لنرى مشهدا عالميا صفته الأبرز هي التدين، وفي الربع الأخير من القرن المنصرم كانت الأسماء التي تحرك أحداث العالم وتملأ شاشاته هي في أغلبيتها تنبع من يمينية دينية، فكان هناك آية اللـه الخميني في إيران 1979 والبابا يوحنا بولس الثاني 1978 والشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس 1987 وأسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة 1986 والرئيس الأميركي جورج بوش الأب 1988 المتأثر ببروتستانتية هي أقرب إلى اليهودية المحافظة، والزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش 1989 الذي برز زعيما قوميا شوفينيا مشوبا بنزعة أرثوذكسية محافظة على الرغم من خلفيته الشيوعية السابقة، وارييل شارون رئيس وزراء إسرائيل 2001 المتأثر باليهودية أكثر من تأثره بالتوراة.
ولذا فقد رأينا أن الجعب التي تستمد السياسات الدولية منها أفكارها وآلياتها هي في الأصل تحوي مخزونا دينيا محافظا، وفي هذا السياق كانت ردات الفعل التي اعتمدتها واشنطن ردا على هجمات أيلول 2001 نابعة من رؤيا المفكر اليهودي المحافظ برنارد لويس واليميني المسيحي المتدين بات روبرتسون، مؤسس وكالة البث المسيحية CBN التي يشاهد برامجها 180 دولة وتبث بـ71 لغة، والمفكر الأميركي المحافظ صموئيل هنتغتون صاحب نظرية صدام الحضارات ذائعة الصيت، والأمر نفسه تكرر في فرنسا وفي بريطانيا لجهة طريقة تعاطي كل منهما مع داعش والتفجيرات التي كان يقوم بها على أراضيهما والموقف من مسلمي الداخل والخارج، فقد غابت في الأولى أفكار الثورة الفرنسية 1789 لصالح بروز أفكار ادموند بيرك الذي ابتنى أفكاره أصلاً على التعارض مع أفكارها، وفي الثانية غابت أفكار جون ستيوارت ميل الديمقراطية المتنورة لصالح أفكار القس المسيحي الأصولي جيري فالويل، أما في تركيا فقد انحسرت حتى غابت أفكار مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس العلمانية، لتشهد السنوات الأخيرة من القرن الماضي بروزا لزعيم حزب الرفاه نجم الدين أربكان الذي أضحى في العام 1996 رئيسا لوزراء تركيا، ولم يقف الأمر عند تلك الحدود حيث سيشهد مطلع الألفية الثالثة تمكينا لوصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي بدءا من العام 2002 ولا يزال، والأمر نفسه تكرر في العراق فغابت أفكار أحمد الجلبي وعلى الرغم من عمالة هذا الأخير للأميركيين إلا أنه محسوب على الليبرالية لصالح سيادة أفكار التنظيمات الإسلامية وأبرزها حزب الدعوة وما يلحق به من أحزاب أصغر، ومن المهم أن نلحظ هنا أن واشنطن أرادت إجراء التحولات التي تريدها في المنطقة انطلاقاً من العراق، وهو ما يمكن لمسه في سيطرة الإخوان المسلمين على صناعة القرار السياسي داخل المعارضة السورية منذ تأسيس المجلس الوطني المعارض العام 2011 وإلى الآن، وفي مصر وليبيا وتونس وأن إخفاق الإسلاميين هنا في الإمساك بتلابيب السلطة في هذه الدول الثلاث الأخيرة.
ما نريد قوله إن هناك رياحاً يمينية محافظة قد اجتاحت السياسات العالمية منذ ربع القرن الماضي الأخير وإلى الآن لا تزال تلك الرياح هي المؤثر الأول في المناخات التي تتحكم بصناعة القرار السياسي في أميركا وجزء كبير من الغرب وفي المنطقة، حيث مثل وصول الرئيس الأميركي ترامب إلى السلطة في كانون الثاني الماضي ذروة ذلك التحكم لتبان سطوتها في سيادتها ونجاحها في حصار ما تبقى من بقايا الليبراليين ممثلين بوزيري الدفاع والخارجية وإبعادهما بشكل شبه تام عن السياسات المحورية وحصرها في حكومة الظل في البيت الأبيض بقيادة الثلاثي الذي يقع ترامب تحت تأثيره سابق الذكر.
تبقى هناك المناخات العالمية التي اتخذ الرئيس الأميركي في سياقها قراره بنقل سفارة بلاده إلى القدس، وهي في مجملها تميل إلى الابتعاد عن المواجهة مع أميركا ومن الواضح أن الصين لا تزال محكومة بقوانين «الشرنقة» أو البقاء في طور السكون بانتظار استكمال شروط الاستيقاظ الصيني، أما روسيا فهي لا تريد أن تضيف سببا آخر من شأنه أن يؤدي إلى زيادة التوتر مع واشنطن يمكن أن يضاف إلى الأزمتين السورية والأوكرانية ومعهما الدرع الصاروخية، أما في عالمنا العربي فهو يعيش حالة من التشرذم والوهن غير مسبوقة، وهو يعيش منفعلا بالأحداث لا فاعلا فيها، بعد أن عطلت أغلبية «العقد العصبية» التي تتحكم بحركة أعضاء الجسد حين تعرضها للخطر، الأمر الذي دفع المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة نيكي هايلي إلى القول يوم الأحد الماضي إن أولوية العرب هي إيران وليست القدس، وما يجمعنا بزعماء العرب ضد إيران هو أكبر مما يفرقنا حيال القدس، بل ودفعها إلى استقراء الأحداث اللاحقة لتقول: سترون أن خطوتنا، تقصد نقل السفارة، ستسرع الحل في إسرائيل، نحن فقط رفعنا القدس عن طاولة المفاوضات لكي ينتقلوا إلى الحل الفعلي، وبناء عليه تبدو الرهانات التي تظهر حدودا كبيرة من التفاؤل بأن يستطيع الشارع العربي ملئ فجوة القوة لدى الأنظمة كما حصل حين استطاع الشارع الفلسطيني في حرب الـ14 يوماً في تموز الماضي إجبار إسرائيل على التراجع عن قراراتها التي اتخذتها آنذاك بشأن المسجد الأقصى، تلك الرهانات وبكل واقعية تبدو خاسرة وهي لا تعدو أن تكون مخدرا لا بد من إعطائه قبل إجراء الجراحة، ومن يتابع ردات الأفعال بدءا من زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ارييل شارون للمسجد الأقصى العام 2000 وصولا إلى ردة الفعل الأخيرة تجاه نقل السفارة الأميركية إلى القدس يوم جمعة الغضب الماضية، سيرى أي خط انحداري تسلكه مخزونات ذلك الشارع الذي يتم الرهان عليه.
باختصار العرب هزموا في ميادين المعارك وفي ميادين السياسة، وهذه ليست دعوة للاستسلام أو إحباط العزائم وإنما هي توصيف للواقع، ولم يبق أمامهم إلا ميادين الايدولوجيا والذهاب نحو اعتبار المسألة «إيمانية» عبر ربط فكرة أن الإيمان بالقدس يعني الإيمان بالله وتوريثها للأجيال اللاحقة لعل هذه تمتلك، وهذا مؤكد، قدرات أكبر وهي تعيش في ظروف أفضل تسمح لها بتحقيق ما عجزنا نحن عن تحقيقه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن