حراس الحياة
| د. نبيل طعمة
يتحدثون بأنَّ الزمن ثابتٌ، نحن المتحركون، لأنه يرينا أين نحن للمتطلعين إلى الأمام، أتحدث بأنه يدعونا لنعلم أين كنا، وكيف صرنا، وإلى أين ذاهبون؟
نحن البشر من قسمناه إلى ثلاثة أزمان، وثلاثة أديان، وثلاثة كواكب، نحيا بسببها، نسجل الأفعال التي تستحق الخلود، معترفين بأنَّ الجسد المادي فانٍ، روحه تشير إلى رسائل الحياة التي دوَّنها، تعلن أنه وحدة لم تكن مؤثرة من المعلومة، بحكم أنه لم يعد أحد ليخبرنا مَنْ ذاك العالم السفلي الذي نسج القصص، وروى الأساطير التي توارثها الفكر، وغزا به الجمع الحي؟ والهدف إصلاح الذات البشرية القائمة والمتحركة فوقه، وعليه، وما نسير إليه، لا يتعلق بالعواطف، أو المشاعر، أو ينشد طوباويات، إنما يختص بالمنطلق المدعوين للتعامل معه، فالفعل المبرمج يتوقف معه ليدقق النتائج المخططة قبل الوصول إلى الأهداف المادية التي تحقق الواقع المعرَّف بأنه الحقيقة المادية، بينما اللامادية وفي اعتقادي أن لا أحد استطاع الوصول إليها، ومن ادعى أنه قد وصل فهو مخادع، أو يراوغ حتى ذاته.
إيماننا بأنَّ الحياة حية بدأت كي لا تنتهي، والزمن وحده يشير إلى انتهائنا، بعد أن نخوض غمارها، طبعاً أقصد الحقيقة المسكونة في قاع الأشياء غير المعرفة، أو فوق ما تراه الأعين، وتتابعه حركة اشتغال الفكر الفلسفي والعلمي، وضمن واقع أمرها، نجدها تتنفس الصعداء في الذات الحية، تتجول فيها بين الأعلى والأدنى، تسقط الأقنعة، تطل قوية وصريحة وعفوية، تثبت الاعتقاد أو تنفيه، لم يصل أحد إلى تعريفها، لذلك بقيت في حالة الشيء، كما هو الزمن، وكما الكل ينظر بعين العقل إلى أنه الشيء المانح للمشيئة (الله)، وأوقن أنَّ هذا الاسم يستحق التأمل ملياً فيه، والبحث الجدي في ماهيته فكرياً وعلمياً وفلسفياً، كي نصل إلى الإيمان الدقيق والاقتراب من درجة الواجد والموجود.
مناورات صغيرة نجريها بين تلافيف الفكر الحامل للأزمات الكبرى، بغاية وقف تسارع التدهور الإنساني المقلق والمخيف، فالأحداث البشرية الجارية في هذه الآونة تؤكد تماماً أنَّ التردد في فهم العلاقة بين الأحياء والزمن لم تعد مفيدة، لأنَّ كوكبنا الحي يتجه إلى الموت، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، ضمن حركة دؤوبة لم نكن لنتفكر فيها، وحراس الحياة يبدو أنهم فقدوا حضورهم بعد أن تاهوا بين العالم الجديد الذي ابتلع القديم، بما فيه المنظومة الأخلاقية، ومفردات الخير والتسامح والتسامي، وهذا ما أظهرته قوة الهجمات القادمة من مغذّي التطرف والتعصب، ما أدى إلى توقف العالم، إلى جانب ثبات الزمن، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا في حالة الاقتراب من النهاية، وعلينا أن ندرك بدقة أننا نتعايش مع أوقات عصيبة جداً، تنهي الأفعال الجميلة والمبهرة للأنظار، وتغتال الضمائر القادرة على صناعة الحياة والحفاظ عليها، ومن ثمَّ علينا أن نعلم أن كل ما صنعناه للحياة، وصنع لنا، تحول إلى أدوات وقت، وأخذ المناخ الكلي لهذا الكوكب يتطرف، ويسهم بقوة في قتل الحياة، زلازله.. براكينه.. أعاصيره.. فإلى أين؟
هل نستطيع أن نتحول إلى العقلانية وإيجاد مساحات للتروي والمصارحة بعد أن نعترف بأنَّ المرحلة التي نحياها جدُّ حرجة؟ وهل مازلنا قادرين على تحمل هيستريا انفلات الطموحات والأحلام السياسية والاقتصادية والدينية في السيطرة على بعضنا، ونحن نمرُّ من أمام أشد المساحات التاريخية قتامةً وظلمةً، نبحث عن مخرج من دون شمعة مضاءة، أو حتى التفكير في وجوب تعريف الشيء، وصولاً إلى تحقيق مقتضاه، ومن ثمَّ البناء عليه.
لماذا الزمن ثابتٌ؟ لأنَّ كل شيء متحرك، وهنا لا أبحث عن مثالية الوجود، إنما أتجه إلى مفارقاته المنتشرة بين العدمية والأنشطة، بين الفقر وأسبابه، والغنى وفساده، وعلاقتهما ببعضهما، على الرغم من تحركهما إلى جانب بعضهما، وتعايشهما القسري، وهما في الزمن ذاته من أسباب انفجار الحياة وتفجيرها، لأنهما يمثلان معاً القنبلة والصاعق، الراعي والقطيع، الإرادة والسلطة والتسلط، نحن صدى بعضنا.
متى نستقل عن أفكارنا الهدامة، ونتبادل الرضا مع الحياة وما منحته لنا؟ فإن بقينا هكذا يحق لنا أن نطلق على وجودنا فيها الغابة والوحش، لأن استمرار هبوط مستوى فكرنا أوصلنا إلى درك الغريزة المرتبط بالحد الأدنى لفلسفة البقاء، فإذا امتلكنا أين صرنا عرفنا ضرورة الاتجاه لترميم الحاضر بواقعية الاعتراف، من أجل مستقبل لعالم لا يموت فيه تاريخه، ويشهد عليه الزمن بكامل أبعاده.
كتبت عن مسألة ثبات الزمن، وأننا عقاربه التي تتسابق عليه، كي نلدغ أمامنا، لننهي حياة أحيائنا، بمن فيها نحن البشر، فهو يرينا أين نحن؟ وهذه مهمته الوحيدة، ويوقفنا إلى جانبه لنعلم ما أنجزنا بناءً أم هدماً أم شراً؟ يتحول وجوده إلى حارس من حراس الحياة التي تدفعنا للبحث عن الفردوس المفقود، ومعها نكتوي بآثامنا التي تنشئ جحيمنا القادم منها، فالثابت يقول: إن جناننا حِكْمتنا، وكم مطلوبة منا، وجحيمنا شهوتنا المستمرة في نهب كوكبنا وإنساننا لبعضه، فما الذي يمنع البشرية من الذهاب إلى جحيمها، أو أن يسمح بأن تكون متنامية بألفة الأوجار وزهور الأشجار التي تأبى إلا أن تموت واقفة؟
حراس الحياة منظورون منها، ومهما أفسدت العامة فيها، وحتى الخاصة، إلا أنَّ خاصيتهم تترفع فوقهم، يشكمونها إليهم متى قصدوا، وإن حدث انفلاتٌ فسيكون ضمن فلسفة انتظامهم، حيث تكون ضمن إرادتهم التي تنشد تحقيق نظرية المليار الذهبي، والباقي رعاع، مهما كبر أو صغر، وهذا ما يؤمن به الحراس القابعون في مثلث الهرم المخصص لكل شعب، وعينهم تجسد عين الله الذي يدعوهم للثقة به، يتحدثون إلى البقية بأنه يثق بهم، ومن ثمَّ عليهم الخوف منه، وعبادتهم له تجسدها الحقيقة اللامرئية.
حدثني أحد رجالات السياسة الأوروبية لحظة أن كنا معاً في مطعم، قال لي: هل ترى محيطنا؟ فهاجسني العلامة (ابن عربي) حينما قال: الحياة غابة، وسواد جوهر بشرها حيوان ونبات وجماد، لكن صورهم بشر، ولحظة أن قلت ذلك ضمني إليه بشدة وقال: هذا هو سرُّ الكون، بلا حراسة لا يعمل، ومن دونهم ننفلت، اختلفنا واتفقنا على أنَّ الضرورات تبيح المحظورات، ووجدت أنه من دواعي تعميم المعرفة وللراغبين في الانتقال من الرعاع إلى الحراس فهم فلسفة المقال وغاية المريد مما يراد.
أيها البشر القادمون من بدء شر، من جوهركم انطلقوا إلى الحياة، وابحثوا عن أن تكونوا، وإلا فلن تكونوا، فإن لم تفعلوا فإنكم راضون ببقائكم وظيفيين، تؤدون واجبات السياسة المتجلية في البحث عن المال والتديُّن التقليدي والجنس المبتذل بلا حب، وشهوتكم باقية، يستثمرها حراس الحياة الذين أوجدوا أسطورة رب الأرباب، عندما خاطبوه هل سنبقى نخدم ذاتنا؟ فقال لهم: اخلقوا بشراً لخدمتكم، وابقوا حراساً عليهم، فإذا انفلتوا منكم انفلتت الحياة، ولن تقدروا على ضبطها، ربما هذا يحدث الآن على كوكبنا الحي الذي يظهر حجم انفلات العامة وفقدان قيادتهم من الحراس نتاج تمتُّع الحراس بما جنوه وسيطروا عليه.
هل تؤمنون معي أيها الناس أنهم الحرائق المخلفة للرماد، ومن دونهم لما انبعثت الحياة؟ ومن هنا ينشأ سؤال مهم: من ينفخ ليؤجج نيران الحقد والكراهية؟ من يخمدها؟ تفكَّروا.. وأجيبوا أنفسكم.