زجاج الشام تحول إلى ثقافة تراثية خاصة بالمدينة .. تحف تتهافت عليها متاحف العالم وعلى درجة عالية من الابتكار
| منير كيال
كان اكتشاف الزجاج مصادفة، وتروي الأخبار أن سفينة محمّلة بالنطرون، رست على ساحل فلسطين، أراد ركاب السفينة إضرام النار، فلم يجدوا أثافي (حجارة) تصلح لوضع القدر فوق تلك النيران، استعانوا ببعض حجارة النطرون المحمّلة بالسفينة، لتكون أثافيّ يوضع عليها القدر. وبعد فترة لاحظوا مادة سائلة تخرج من حجارة النطرون بموضع الأثافي. فلما خمدت النار، جمدت تلك المادة السائلة وسواء كان ذلك حقيقة، أم من نسج الخيال، فقد كانت بلاد الشرق القديم موطن صناعة الزجاج بالعالم القديم. وقد ذكر البيروني: إن الزجاج يتكوّن من الرمل المخلوط بمادة (القلي)، وهذا الخليط يُصبح سائلاً عند التسخين، وعندما يبرد يتحول الخليط إلى مادة صلبة تعرف بالزجاج.
نماذج المتاحف
أما صنع الأواني الزجاجية، فقد دلّت النماذج المحفوظة بالمتاحف، على اتباع الإنسان أساليب متعددة في صنع الأواني الزجاجية، ولمعرفة صناعة الأواني الزجاجية في عصورها الأولى، لا بد أن نتوقف مع مسيرة هذه الصناعة وأدواتها، وهذا أمر يستدعي معرفة العناصر الأولى التي تدخل بهذه الصناعة، ونسب كل منها، وبالتالي تنقية الزجاج قبل صهره، ومعرفة المواد التي تضاف إلى الزجاج المزيلة للوّن (الملونة)، ثم معرفة درجة حرارة الانصهار، فضلاً عن الأدوات اللازمة لهذه الصناعة، وكذلك بناء الفرن الذي يصهر به الزجاج لتكوين العجينة اللازمة للصنع ودرجة حرارة الانصهار فضلاً عن الأدوات اللازمة للعمل.
وفي جميع الأحوال فقد عرفت صناعة الزجاج أٍسلوبين لإنتاج القطع الزجاجية لشتى الاستعمالات، وهما أسلوب الضغط وأسلوب النفخ.
فأسلوب النفخ يعود إلى القرن الأول للميلاد، وقد ساعدت هذه الطريقة على رقي صناعة الزجاج وازدهارها، وبالتالي إتاحة الفرصة لإنتاج روائع وتحف تتهافت عليها متاحف العالم. ويعود الفضل في ذلك إلى الصناع السوريين على اعتبار أن سورية كانت المركز الأول لإنتاج المصنوعات الزجاجية. كان الصناع السوريون على درجة عالية من المران والبراعة والابتكار، حتى إنه من الصعب مجاراتهم في نفخ الزجاج في ذلك الحين وتكون عملية إنتاج الزجاج وفق أسلوب الضغط، بأن توضع قطعة من عجينة الزجاج بقالب أو مكبس فيكبس على تلك العجينة فتأخذ شكل القالب، أما الزخارف، فهي سواء أكانت داخل الإناء أم في محيطه الخارجي، فإنها غالباً ما تكون منقوشة بالقالب المذكور، وعند الضغط، تأخذ العجينة شكل النقوش والزخارف التي بالقالب.
وقد تميزت سورية وبشكل خاص دمشق بالعديد من أفران الزجاج والصنّاع المهرة الذين توارثوا المهنة إلا النزر اليسير من هؤلاء الصناع، وقد بلغت دمشق، مبلغاً لم يبلغه بلد آخر من بلاد المشرق، فكانت سورية المركز الرئيس في تصدير مصنوعات الزجاج إلى بلدان أوروبا والشرق الأقصى.
وكان صنّاع الزجاج في العصر الإسلامي الأول يمارسون عملهم وفق الأساليب التي توارثوها، كابراً عن كابر حتى بلغت صناعة الزجاج السورية الذروة بالقرن السابع للميلاد، وقد شملت منتجات الزجاج بذلك الحين، زجاجات وأباريق وأكواباً، حتى بلغت هذه الأواني من الكثرة والتنوع مبلغاً لا يمكن حصر أنواعها.
وقد عد الثعالبي صناعة الزجاج من خصائص أهل الشام، وبها يُضرب المثل القائل: أرق من زجاج الشام.
زجاج دمشق في التاريخ
فكان الزجاج الدمشقي على كل شفة ولسان، وذكر ابن بطوطة لدى زيارته دمشق بالقرن الرابع عشر للميلاد؛ أن بدمشق شوارع لحوانيت الجوهريين والكتبيين، وصنّاع أواني الزجاج العجيبة، كما ذكر الرحالة بوجيوس سنة 1346م أنه رأى بدمشق معامل الزجاج تنتشر على طول الجامع الأموي وكان ممن اشتهر بصناعة الزجاج في تلك الفترة أبو إسحاق إبراهيم بن محمد النحوي الملقب بالزجاج قبل اشتهاره بالأدب.
كما بلغت صناعة الأواني الزجاجية عصرها الذهبي بين القرن العاشر والقرن الثاني عشر للميلاد، وكان أبرز ما يميز هذه الصناعة إنتاج الأواني الزجاجية ذات الزخارف النافرة المضافة إلى القطعة المصنوعة أثناء الصنع، بشكل يُحير العقول بدقتها وإتقانها.
ومن الأعمال التي قدمها صناع الزجاج في سورية بهذه الحقبة تلك الأواني المزخرفة برسوم البريق المعدني وألوان الميناء الزجاجية، الأمر الذي جعل هذه الفترة أساساً للتقدم الذي امتازت به صناعة الزجاج المطلي بالميناء، وكانت دمشق وحلب أهم مراكز هذه الصناعة بالقرنين الثالث عشر والرابع عشر، حتى إن منتجات دمشق وحلب الزجاجية كانت تغمر أسواق أوروبا، وقد أعجب الرحالة بهذه المنتجات فحملوا الكثير منها من دمشق إلى بلدانهم.
وتستخلص طريقة صنعها بأنهم أتوا بقطعة الزجاج بعد شيها، فيرسم عليها نقوش وزخارف نباتية وهندسية وأزاهير وكتابات، ثم يملؤون مكان الرسم بألوان الميناء، من أحمر وأصفر وأخضر وأزرق حسب الرسم، وبعد ذلك تشوى القطعة ثانية، فتتعشق الميناء الزجاجية مع جسم القطعة الزجاجية فتكون كتلة أو قطعة واحدة. وكان أهم ما قدمته دمشق وحلب في هذه الفترة الذهبية لصناعة الزجاج ما كان من الأواني ذات الأشكال الرباعية والسداسية المزخرفة بتصاوير بارزة مطلية بلون الفيروزي الأخضر المزجج اللامع وكذلك الأقداح والأباريق المطلية بالذهب المموه بالميناء وغير ذلك مما نجده في خزائن المتاحف والدور القديمة، من تحف الأواني التي تشهد على ما بلغه زجاج دمشق من إتقان ومهارة.
فضلاً عن ذلك، فقد جذب الكوارتز أنظار صنّاع الزجاج، فقاموا بصنع الأقداح والقوارير على هذا النحو.
زخرفة وثقافة
وقد أدى تطور زخرفة الزجاج إلى أسلوب زخرفة الزجاج وصيغه، الأمر الذي جعلهم يتوصلون إلى التوافق بين صناعة الزجاج وصناعة الميناء الزجاجية، التي يدخل في تركيبها الأكاسيد المعدنية، وكان من حصيلة ذلك وصولهم إلى أسلوب تلوين الزجاج بالمعادن، وقد اشتهرت دمشق وحلب بالقرن الثالث عشر بالزجاج الملون، ونجد في المتحف الوطني بدمشق مجموعات فريدة من منتوجات الزجاج السوري التي تعود إلى مختلف العهود الكنعانية والرومانية والبيزنطية، وسائر العهود الإسلامية، فمن منتوجات زمن الكنعانيين نجد قوارير وأوعية للزينة، إضافة إلى صحاف فاخرة تدل على دقة الصنع والذوق الرفيع الذي وصل إليه كنعانيو الساحل، ومن النماذج التي تعود إلى أيام الرومان، نجد الأباريق والكاسات ومكاحل زجاجية فضلاً عن الأواني التي على شكل أسماك وأشكال نباتية.
أما نماذج العهد البيزنطي، فتضم قوارير متعددة الحجوم، ودوارق، وعيارات للوزن نقشت عليها كتابات وأشكال نباتية.
وقد ضم الجناح الإسلامي للزجاج بالمتحف الوطني، مجموعات فريدة، منها ما هو باللون الطبيعي للزجاج، وما كان بلون واحد أو أكثر… ومعظم هذه المجموعات تعود إلى الفترة الممتدة من القرن الثاني عشر إلى القرن السادس عشر للميلاد ومن هذه المجموعات: نجد الكؤوس والقماقم والطاسات، بأشكال بسيطة أو مضلعة متموجة، وهي مزينة: بخيوط دقيقة من الميناء البيضاء الملتفة حولها على شكل حلزوني، كما يضم هذا الجناح بالمتحف الوطني: قوارير متعددة الحجوم، فضلاً عن الحوجلات والأوعية التي عليها زخارف نباتية وكتابية وحيوانية مطلية بالميناء والذهب.
قيام صناعة الزجاج التقليدية
تدهور في العهد العثماني
كان من المؤسف أن تكبو صناعة الزجاج في سورية، بعد تلك الطفرة من الألق والازدهار، فقد بلغت هذه الصناعة أسوأ أوضاعها زمن الحكم العثماني، لكنها عاودت تسترد بعض ما كانت عليه، فانتعشت بعض الشيء وحاولت التجديد بعد قدوم نفر من بني نعيم الدالي من مدينة الخليل بفلسطين، الذين عملوا على إعادة شيء من هذه الصناعة، وقد عمد هؤلاء، وهم المعروفون في أيامنا بآل القزاز، مع محترفين آخرين من دمشق كانوا على معرفة بأساليب نفخ الزجاج التقليدية… عمدوا إلى صنع المنتجات الزجاجية المعروفة بأيامنا، كما قاموا بمعايشة الأذواق المعاصرة وبالتالي محاكاة القطع المصنوعة من الزجاج التي تزخر بها المتاحف والدور.
ونجم عن ذلك إنشاء العديد من أفران الزجاج بحيّ الشاغور بدمشق على وجه خاص، أكان ذلك في محلّة القراونة أم زقاق الشيخ، أم بين التربتين (المقبرتين)، من هذا الحي، وغالب تلك الأفران أنشئ بمبادرة فردية، إلا من بعض الحالات التي يشترك فيها أكثر من إنسان لإنشاء واستثمار فرن الزجاج… ومن منتجات هذه الأفران: القطرميزات وأباريق الماء والكاسات وبعض الأواني الأخرى.
ونظراً لحاجة السوق المحلية وأسواق البلدات المجاورة، فقد قامت شركة لصنع الزجاج بمنطقة باب شرقي بدمشق، ولم يمض بضعة أيام على بدء إنتاج هذه الشركة حتى دب الخلاف بين الشركات وأحرق المعمل وحطمت قوالبه وأساسه بدافع حماية الأسواق التي تعتمد على الزجاج المستورد المتمثلة بالأطماع الخارجية.
أما آل القزاز، فقد عملوا على تجديد العمل وتحسين الأداء وفقاً للأساليب التقليدية وقد ساهمت مع آل القزاز مبادرات فردية، بإنشاء أفران عدّة بحي الشاغور، أكانت هذه الأفران تقليدية أم نصف آلية. ومنها ما كان في زقاق البرغل والديوانية ودمّر.
ولما كانت وسائل المواصلات وأساليب تعبئة القطع المصنوعة من الزجاج، لا توفر الحماية الكافية خلال النقل من أماكن الإنتاج إلى أماكن البيع، فقد تطلب ذلك قيام معامل أخرى قريبة من أسواق الاستهلاك، أكان ذلك على الأراضي السورية أم من الجوار.
ولم يكن إنشاء أو بناء فرن الزجاج التقليدي على درجة كبيرة من الصعوبة، ذلك أن قيام أو إنشاء هذا الفرن لا يتطلب أكثر من أرض مساحتها نحو (100-150)م2، وهذه المساحة كافية لإنشاء الفرن وأماكن تجميع الإنتاج للتسويق، وجناح صغير من المكان يمكن أن يكون مكتباً لصاحب هذا المعمل أو مستثمره، أو يشغل هذا الفرن مساحة تقارب الـ(60-70)م2 وهو مكون من حوضين مبنيين من الآجر الناري (المقاوم للحرارة) وهذان الحوضان هما: حوض الانصهار (المحوّل) وحوض (التصفية) القدرة، وبهذا الحوض طاقات (فتحات) تساعد على كرخ (أخذ) كمية من الزجاج المنصهر، لصنعها أداة زجاجية تدخل في الاستعمال ويكون عدد هذه الفتحات بعدد العاملين لصنع الأدوات الزجاجية. وأمام كل فتحة من تلك الفتحات، مساحة مكسوّة بحجر بازلتي صقيل أو نحوه، وعلى هذه المساحة يقوم نافخ الزجاج بدمج قطعة عجينة (الكرخة) الزجاج التي يجب إخراجها من حوض الانصهار. وبالطبع فإن لكل من هذه الفتحات باباً (مغلاق) يتحرك بفعل دواسة ترتبط بمفصل يعمل على فتح باب الطاقة أو إغلاقها.
وبصورة عامة لا يتجاوز ارتفاع كل من هذه الفتحات (60)سم من محيط حوض الانصهار أما ارتفاع بناء الفرن فلا يزيد على ثلاثة أمتار، ولهذا الفرن سقف مقبب بعض الشيء وتعلوه ساحة بارتفاع نحو المتر، وتستخدم هذه المساحة لشي وتخمير قطع الزجاج المنجزة.
أما عدد العاملين في الفرن، فإنه يتناسب وعدد الطاقات في حوض التصفية وحسب الطلب على الإنتاج، وغالب العاملين في الزجاج بالمعمل من أسرة رب العمل أو من له صلة وثيقة برب العمل، وفي حال كثرة الطلب، يعتمد على أناس آخرين.
والأدوات المستعملة لصنع الأدوات الزجاجية محدودة وبسيطة، منها أنبوب معدني يقارب طوله المتر يُطلق عليه اسم الحديدة وقضيب آخر من الحديد طوله نحو المتر يطلق عليه اسم البولين ويستفاد منهما في عملية فتح فوهة آلانية التي تصنع بعد إلصاقه بمنتصف قعر الآنية المذكورة، ومن ثم برم البولين على قطعة التربيع وهي على فخذ الصانع وهناك أيضاً ما يعرف بالماسة التي يُستعان فيها على فتح فوهة القطعة التي قيد الصنع، وهذا بالإضافة للمقص الذي تستأصل به الشوائب التي بعجينة الزجاج المعدة للنفخ، فضلاً عن القوالب التي ينفخ بها عجينة الزجاج لتأخذ شكل القالب من أباريق وأكواب ونحو ذلك، وكذلك ما يعرف بالغزالة وهي على شكل اقرب إلى المجرفة ويستفاد منها بقشط الطبقة السطحية من عجينة الزجاج التي بالقرب من الطاقة للحصول على عجينة أنقى.
صناعته الماهرة
وهكذا فإن الصانع في فرن الزجاج (النافخ) يفتح باب الطاقة ويعمد إلى غمس رأس الحديدة بعجينة الزجاج بلفها على رأس تلك الحديدة ومن ثم يزيل أو يقص ما قد يكون بها من شوائب ويشرع بدمجها على البلاطة البازلتية التي أمام فتحة الطاقة ويشرع بعملية النفخ مع تسخين تلك العجينة كلما بردت والصانع في ذلك يحرك تلك العجينة خلال النفخ إلى أمام وخلف وقد يلوح بها وهو واقف إلى أن تصل تلك القطعة إلى الحجم المرغوب، ثم يلصق له العامل المعروف باسم المسطر رأس قطعة البولين في منتصف قعر الآنية أو القطعة يشرع النافخ بعملية فتح فوهة القطعة التي قيد الصنع بواسطة ما يعرف بالماشة، إذا ضخ النافخ من فتح فوهة القطعة التي يصنعها، قد يضيف إليها بعض الزينة ومن ثم يتناولها المسطر منه بواسطة أداة طويلة تعرف باسم السفّود، ليصار إلى تخميدها بالقسم العلوي من الفرن، أو أي مكان آخر مخصص لذلك.
ويساعد نافخ (صانع) الزجاج عدد من العاملين بحدود المصلحة (العمل) وأهم هؤلاء ما يعرف بالمسطّر وهو عامل على خبرة بأصول العمل (قرايري) وهناك الأجير الذي يساعد في فتح القالب للنافخ بحيث تأخذ القطعة بشكل هذا القالب ويطلق على هذا الأجير اسم المخدم.
وحري بنا الإشارة إلى عدم إقبال الناس في هذه الأيام على استعمال الأدوات والأواني الزجاجية كما كان عليه في أواسط القرن العشرين، وهذا الأمر نجم عنه توقف غالب هذه الأفران فما بقي من هذه الأفران قد تحول إنتاجه إلى ما يتلاءم مع متطلبات الوقت الحاضر والأذواق المعاصرة مع المحافظة على الأصالة والأسلوب التقليدي في صنع الأدوات الزجاجية، فكان من الصناع من أخذ ينتج قطعاً زجاجية تحاكي مثيلاتها بالمتاحف والقصور والدور وقطعاً أخرى مستمدة من متطلبات ديكور الصالونات والفنادق السياحية، ومحالّ العرض التجارية الكبرى.. ومن ذلك القناديل والمشكاوات والزهريات والثريات الحديثة، وغير ذلك من القطع والأدوات التي يقبل عليها السياح والزوار لمدينة دمشق.