جمال عبد الناصر ونزار قباني
| إسماعيل مروة
لمصير واحد، ولشعب واحد، سوري مصري، مصري سوري، عمر ممتد من الاستهداف والحروب، فعلى مرّ العصور لا يمر ذكر الشام من دون ذكر مصر، ومن يرجع إلى «بدائع الزهور» لابن إياس يجد هذه اللحمة بين البلدين، فما من اعتداء يقصد مصر لا يأتي على الشام مباشرة، وما من أمر يقصد الشام لا يتم أمره بمصر، وحملات إبراهيم باشا بتكليف من والده محمد علي تؤكد أن العمق الإستراتيجي لمصر هو بلاد الشام، فكانت الحملة، وكان حصار عكا، وكان وكان… ومن قبل كانت الدولة الأيوبية التي لم يكن لها من قيام من دون وجود البلدين ضمن شبكة واحدة، والدولة الفاطمية كانت مشرعة على البلدين، وحين أذنت شمسها بالمغيب كانت بلاد الشام ملاذاً لأبناء مصر من الفاطميين، ويدرك ذلك كل قارئ للتاريخ… حتى حملة نابليون لم تكن لتكف تطلعها إلى الشام لإدراك فكره العسكري الإستراتيجي أهمية بلاد الشام لمصر، وأهمية مصر لبلاد الشام… وحين حدثت النكبة الكبرى عبر تاريخها الطويل، وانزرع الكيان الصهيوني في فلسطين العربية، لم تكن مصر تعتني بالفكر القومي، وكتب الأدب لعمر الدسوقي ولطفي السيد تشهد بذلك، ومع ذلك توجه المصريون لنجدة فلسطين العربية وكان حصار الفلوجة الذي التبست فيه أمور كثيرة أدت في النهاية لقيام ثورة 23 تموز 1952، التي شكلت بداية نهوض الفكر القومي العربي، ومن خلالها التزمت مصر بالفكر القومي العروبي، وصارت فلسطين القضية الأولى لها، أقول هذا لنكتشف جوهر مصر وأهلها وعروبتها، فبعد قرون من الحكم الذاتي أو ما يشبهه، وبعد قرون من الباشوية والخديوية، وعند حصول كارثة العروبة نهضت بمشروعها القومي العروبي، ودفعت لذلك ما لا تقدر عليه دول غنية اليوم، وبعد ستة عقود من الاحتلال لفلسطين، وبعد ستة عقود من الكفاح، وبعد أن اعترف العالم بحق الفلسطينيين بأرضهم الأبدية، يخرج علينا من لم يدفع ثمناً يوماً، ومن لم يطلب منه في يوم أي شيء لفلسطين، يخرج علينا ليدافع عن حق الصهاينة بفلسطين، وليبرهن أن الأرض لبني إسرائيل، وأن الفلسطينيين دخلاء عليها، ولا ذكر لهم! أرأيتم هذه الصفاقة التي لم يجرؤ عليها وعلى قولها عتاة الصهيونية من بن غوريون إلى نتنياهو، بل لم يقل بها أبو الفكر الصهيوني هرتزل، الذي استعان بالإنكليز لتحقيق مشروعه، ولو عثر على صديقنا الجديد ما احتاج إلى بلفور ولا إلى الإنكليز؟!!
لابد من الوقوف عند هذا العهر الذي يتمتع به بعض العرب اليوم، ولم يكن يمتلكه الصهاينة أنفسهم… وبالعودة إلى مصر، فقد كانت مصر العظيمة بعيدة عن المشروع العروبي بسبب الباشوية والخديوية، لكنها تقدمت من مشروعها القومي الأصيل، فدفعت الأثمان في الفلوجة، وتابعت التعبئة، لتكون وسورية في رأس الفكر العروبي المدافع عن فلسطين وعروبتها، وعن العروبة، وسواء اتفقنا مع الأحزاب السياسية، أو الرؤى والطروحات التي قدمتها هذه الأحزاب في تلك الآونة أم لم نتفق، إلا أننا لا يمكن أن ننكر نبل التوجه، وعمق التضحيات السياسية والاقتصادية والعسكرية، بل أيضاً الجغرافية بخسارة بعض المساحات من الأرض الغالية، وذلك إلى أمدٍ لن يطول إكراماً للقضية العربية.
هذا التناغم القومي بين مصر وسورية وصل الغاية المنشودة بالوحدة بينهما عام 1958، والتي تعرضت لتشويه وإساءة من أبنائها في الداخل، ومن خصومها في الخارج، وقد استطاع الاختراق الخطير للسياسيين تقديم صورة شوهاء للوحدة ومسارها ويومياتها، إلى أن اقتنع الجميع أن هذه الوحدة الاندماجية كانت خطأ، وأن الأفضل ألا تكون اندماجية، وحتى لا ننساق وراء العواطف، ولأن الأحكام القطعية تملك خطأها في طرح جوهرها، نقول: إن المدافعين عن الوحدة وبقائها كانوا على حق، وكانت نياتهم صافية، وتطلعاتهم طموحة، وكذلك الذين انتقدوا الوحدة، ومالوا إلى الانفصال كانوا على حق أيضاً، فكل جانب انطلق من رؤيته ومن أرض الواقع، ولكن من الخطأ أن ننظر إلى الوحدة والانفصال وأزمات مصر وعبد الناصر من دون أن نضعها في سياقها، وفي الحرب المحمومة التي شنتها عليه دول المنطقة، وخاصة في اليمن وحرب اليمن، والأحلاف التي أنشئت لمحاربة الفكر الوحدوي الطموح، وليس الفكر الناصري، وإن امتد العمر ببعض هؤلاء الذين حاربوا دولة الوحدة فاتخذوا مواقف يرددونها على الدوام، إلا أن مشروعاتهم المضادة للفكر الوحدوي بأي شكل كانت سباقة ومؤثرة، وانتهت الوحدة الحلم، وتحت ذرائع عدة، وكلها ذرائع كان من الممكن تجاوزها لكن انتهاء الوحدة والانفصال لم يحل دون تعاون مصر وسورية، وحين تعرضت سورية لمشكلات، ومصر لمشكلات تعاون البلدان في رد العدوان، وكان عدوان الخامس من حزيران الذي انتهى بكارثة عربية الدليل الأكبر على تواشج العلاقة وأزليتها بين سورية ومصر، ومهما كان الرأي فإن العدوان الذي تعاون عليه المجتمع الدولي، ودفع ثمنه البلدان كان من أدلة الارتباط المشيمي.. وفي الكارثة يغضب شاعر العصر الحديث نزار ويكتب (هوامش على دفتر النكسة) ومرة أخرى يحاول الزبانية معاقبته، لكن مراسلته للرئيس عبد الناصر جعلت هؤلاء الزبانية يتراجعون، وأن ما يتم ترويجه للمسؤول على تعبير الصحفي الكبير محمود السعدني (تمام يا فندم) لم يكن صحيحاً، ويصدر القرار من عبد الناصر بإنصاف نزار قباني من هؤلاء الذين أرادوا إسكات صوت الشعر الغاضب، وأرادوا كمّه قبل أن يصل إلى عامة الناس، وإلى مسامع السيد الرئيس..
يروي نزار قباني، وكما سيرد لاحقاً أن رسالته إلى عبد الناصر أخذت طريقاً عادياً وبالبريد العادي، فكان ما كان، وإن كان لنا أن نتخيل أبعاد هذه المسألة، فإنها حدثت بعد نكسة حزيران، وخسارة مصر وسورية لمعركة كبرى، وخسارة الكثير من المقدرات والطاقات، بل جاءت بعد سنوات ست من الانفصال الذي أقدم عليه السوريون عن مصر، وفي ذلك الوقت كانت أصوات كثيرة وأقلام مصرية ترمي كل ما حصل على سورية وقياددتها، وتصور أن مصر وعبد الناصر تورطا في الحرب إنقاذاً لسورية والعدوان المحتمل عليها، وهذا الرأي عبأ الشارع المصري وشحنه، وكان من الممكن أن ترتفع وتيرة ردود الفعل، لكن ذلك لم يحدث، كان من الممكن لرسالة نزار ألا تصل، وكان من الممكن لعبد الناصر أن يقوم بردة فعل أخرى، فنزار من الإقليم الشمالي الذي انفصل وترك في قلب عبد الناصر وأحلامه القومية والشخصية غصة كبيرة، وهو من سورية التي يحملها بعض الكتبة وزر الحرب، فلمَ يسمع عبد الناصر صوته؟
الأمر كان مختلفاً للغاية، فالشام حلم مصر وعبد الناصر، ومصر شريكة الشام بالألم والفرح، ولن يشين هذه العلاقة الأزلية بين الشام والقاهرة قول القائلين بتحميل سورية أسباب هزيمة 1967، ولا قول القائلين في مرحلة لاحقة إن مصر هي سببت انتصار تشرين 1973، ولو عدنا إلى الأدبيات والأعمال الفنية المصرية التي صنعت عن تشرين فإننا سنجد أن أغلبها يصور الحرب في مصر فقط، وأن سورية كانت سنداً حيناً، وعبئاً حيناً آخر…! لكن الدم السوري والدم المصري امتزجا في مواجهات المصير، والإنسان العادي في كلا البلدين لا يزال إلى اليوم يتحدث عن إقليمين شمالي وجنوبي، وعن الشام ومصر… ونقرأ لاحقاً الخطاب الذي أرسله نزار للرئيس وجواب الرئيس عنه.