ورقة روزنامة
| حسن م. يوسف
عندما أرى روزنامة جدارية، تستيقظ فيَّ الطفولة، وتجتاحني موجة من الحنين لتلك الأيام التي كنت أشعر خلالها كما لو أنني حارس بوابة الحروف عندما كان أبي الأمي، له الرحمة، يومئ لي في العشيات بأن أنزع ورقة النهار من الروزنامة المعلقة على ساموك بيتنا الترابي، كي أقرأ له، على وجهها، ما حدث في مثل ذلك اليوم من التاريخ، وعلى قفاها، ما اختاره ناشرها من حكم وطرائف وأشعار وأقوال مأثورة.
كنت أشعر بنوع خاص من الغبطة، وأنا أفك الحروف لأبي، ما كان يضفي على أواخر نهارات طفولتي نكهة مميزة. والحق أنني كنت أعرف سلفاً، جميع الحكم والطرائف والأشعار والأقوال المأثورة المنشورة في الروزنامة، لأنني كنت أخادع الزمن؛ فأنزل الروزنامة عن الساموك، وأقرأ ما هو مكتوب على أقفية كل أيامها، منذ اليوم الأول من العام. وغالباً ما كنت أعيد قراءة الروزنامة بالمقلوب، كلما ضجرت، بحيث لا ينتهي العام إلا وأكون قد قرأت خلاله كل ما هو مكتوب على أقفية أوراقها عشرات المرات!
لهذا السبب هاجت أشجاني قبل أيام، حتى كاد الدمع يطفر من عيني، عندما أرسل لي أحد الأصدقاء، صورة ورقة روزنامة ليوم السبت الماضي 20 ربيع الأول 1439هجرية، الموافق 9 كانون الأول 2017 ميلادية. وقد دون على وجه الورقة من الأسفل الحدث التاريخي الأبرز الذي وقع في مثل ذلك النهار وكان ذلك الحدث هو: «دخول الخليفة عمر بن الخطاب بيت المقدس سنة 15 للهجرة». أي قبل 1424عاماً.
نعم كاد الدمع يطفر من عيني، لأن من يوجهون الأميركي البشع دونالد ترامب اختاروا له ذلك اليوم عن سابق قصد وتصميم كي يعلن خلاله اعترافه الإجرامي الجاهل بمدينة القدس «عاصمة أبدية لإسرائيل»!
أعترف لكم أن إحساسي بالقهر والعجز أوقفني نحو نصف ساعة عند هذه النقطة، كنت خلالها غير قادر على إيجاد خاتمة معقولة لمقالي هذا! يا إلهي كم يوجعني أن أعلم أن أعداءنا يعرفون تاريخنا جيداً، ويستخدمون معرفتهم بماضينا وحاضرنا لتدميرنا وإذلالنا، ونحن في غفلة مخزية من أمرنا!
أعترف أن ما في داخلي من قهر وغضب لا يتسع له شيء في العالم سوى الشتيمة! وأنا أعتبر الشتيمة عجز الكاتب وإفلاسه! لذلك سأستعير من نفسي كلمات كنت قد كتبتها قبل واحد وعشرين عاماً، عندما أطلقنا الجزء الأول من مسلسل «إخوة التراب»، ونشرت في ركن «كلمة المؤلف» في الكتيب الذي طبع آنذاك ليوزع على محطات التلفزيون ووسائل الإعلام، والحق أن تلك الأسطر لا تزال تنطق بلسان حالي اليوم، ربما أكثر من اليوم الذي كتبتها فيه، لذا أسمح لنفسي أن أعيد نشرها بعد الاعتذار ممن قرؤوها سابقاً ولم ينسوها.
«في التاريخ أوجاعٌ وأشواقٌ نائمة، توقظها الدراما، وما يطمح إليه إخوة التراب، هو أن يوقظ في مشاهديه، أشواق وأوجاع الإنسان العربي، خلال الحرب العالمية الأولى، تلك الفترة التي زرع الغرب الاستعماري خلالها بذور كل المآسي التي عاناها الإنسان العربي في القرن العشرين. الهدف هنا ليس البكاء على الماضي واجترار أخباره، بل مواجهة الماضي لاكتشاف قوانينه وأسراره. ذلك لأن من ينس الماضي يحكم عليه بتكراره ومعاناة آلامه من جديد.
في إخوة التراب حاولت أن أعقد مصالحة بين الدراما والتاريخ، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، كي يضفي التاريخ مصداقيته على الدراما، وتضفي الدراما إثارتها على التاريخ، كما حرصت على الإمتاع والإقناع باعتبارهما الجناحين اللذين يحملان العمل الفني إلى قلوب البشر».