ثقافة وفن

حمام السوق عند النسوان من تراث دمشق التاريخي … ناطورة الحمّام ذات خبرة بالمستويات الاجتماعية.. الطعام المشترك سمة من سمات حمّام النسوان

| منير كيال

لم يكن حمام السوق عند النسوان، حتى أواسط القرن العشرين، لسد حاجات الجسم من النظافة فحسب، وإنما كان لهذا الحمام جانب آخر في حياتهن، إنه يشكل جانباً من الصلة الاجتماعية بينهن، يقضين خلالها ساعات من السرور والبهجة والتعارف، وقص السّير، والتحدث عن أخبار الأخريات من الجيران والمعارف.
كما كن يحيين بالحمام مناسبات خاصة، كحمام الخطبة وحمام العرس وحمام الغمرة والنفاس والأربعين، ولكل من هذه المناسبات تقاليد خاصة.

وللنساء دور في الحمام
وإذا كان ذهاب الرجال إلى حمام السوق يتسم بالعفوية وعدم الإعداد له مسبقاً، فالأمر يختلف لدى ذهاب المرأة إلى هذا الحمام، فهي من جهة لا ترتاد الحمام بمفردها، بل لابد أن تتواعد مع جاراتها، ومعارفها وأيضاً بناتها وكناينها (زوجات أبنائها)، على أمل اللقاء بالحمام، ومن جهة أخرى فإن عليها أن تعد لهذا الحمام عدته من مستلزمات الملابس والصابون والليفة والكيس للتفريك والترابة الحلبية العطرة والحناء، فضلاً عن المناشف، أما طعام الحمام وما يرافقه من برتقال وجزر وأحياناً الكرنب، فأمر يحتاج إلى تدبير وإعداد، ذلك أنه لابد من أن يتناول الأطفال عرائس الزعتر، والكرنب وأيضاً الجزر، وقد يمتصون عصير البرتقال من برتقالة إذا تيسر لهم ذلك.
فما إن تدخل الواحدة منهن القسم البراني من الحمام، حتى ترحب المعلمة بها، ثم تمايز بين الأطفال الذين يرافقونها، فإذا كان أحدهم كبير السن، أو يبدو جسمه أكبر من عمره، طلبت المعلمة إرجاعه إلى البيت، حتى لا يتطلع على عورات المستحمات، وإذا استطاعت امرأة إدخال ابن لها على هذه الشاكلة، فلابد أن تقع مشادة بين الأم والمستحمات لا تنتهي إلا بإخراج ذلك الصبي، ولو أدى ذلك إلى التراشق بالطاسات وشد الشعر وما إلى ذلك من الملاسنات التي يسودها الكلام المقذع والشتائم.
وإذا كان الأمر على نحو آخر، فإن الناطورة تسارع إلى الترحيب بتلك الزبونة (الراغبة في الاستحمام)، ويكون ذلك الترحيب وفقاً لما عليه الزبونة من وضع اجتماعي، وبالتالي كرمها وسخاؤها، ذلك أن الناطورة، على جانب كبير بمعرفة رواد الحمام، فإذا كانت الزبونة مُسعدة (على جانب من اليسار) تنفرج أسارير الناطورة، ويكون ترحيبها حاراً، وتنعتها بالنعوت المبجلة.. وتعمد إلى إجلاسها على أريكة مسطبة البراني، وتساعدها على خلع ملابسها وملابس من يرافقها، وتشد على خصر كل منهن الفوطة (المئرز)، وفوطة أخرى لستر صدرها، ومن ثم ترافقها إلى جناح الوسطاني من الحمام، فتكون البلانة بالاستقبال، فتجلس الزبونة على مسطبة بالوسطاني ريثما يتلاءم جسمها مع حرارة الوسطاني الممهدة لحرارة الجواني، من الحمام.
وفي هذا القسم الجواني من الحمام يختلط الحابل بالنابل، حتى إن المرء لا يكاد يفهم أو يميز ما يسمع لذلك أطلقوا على حالة الفوضى في المجالس قولهم:
مثل حمام النسوان المقطوعة ميته (ماؤه).

الحمام البراني والجواني
تراهنّ موزعات حول أجران مياه الاستحمام في بهو الجواني والمقاصير (غرف الاستحمام) المتفرعة عنه، هذه تسكب طاسات الماء الساخن تغسل به الصابون من على رأسها ووجهها، وهذه تحمم ابنتها أو طفلها، والطفل يزعق (يصرخ) أمامها، وقد جلست على بلاط الحمام وجعلت طفلها في حجرها، ولفّت ساقها فوق ساقيه، ونزلت به معكا (تحميماً) وكلما أمعن الطفل بالصراخ ألماً أو ضيفاً، دحته (ضربته) على ظهره، وقد تعاجله بعضة إذا تضايقت من صراخه.. فإذا أنجزت تحميم رأس الطفل خمسة أو سبعة أتمام (أدوار) أو مرات، أعقب ذلك تفريك جسم الطفل بالكيس، لتزيل عنه مفرزاته، وتتبع ذلك مرحلة تلييف جسم الطفل بالليفة والصابون ولا تترك الطفل حتى تنهنهه (تنهكه) ويصبح لون الجسم وردياً، وقد تساعدها في ذلك ابنتها أو كنتها (زوجة ابنها) بسكب الماء على جسم الطفل عقب كل (تم) دور، وعقب التفريك والتلييف.
يصاحب ذلك صوت ارتطام طاسات (أواني) غرف الماء الساخن من الجرن، وتلاسُن المستحمات على الجرن وحوله، بشأن الدور في غرف الماء من الجرن، أو طول اختلاف حجم هذه الطاسات.
تبدأ المرأة استحمامها بدلق (سكب) الماء الساخن على جسمها، تمهيداً لتحلل مفرزات الشعر والجلد، فتسهل إزالتها بغسل الشعر بالماء والصابون وتفريك الجسم بالكيس، وتلييفه بالليفة والصابون، وأول ما يحممن الأطفال من بنين وبنات، بعد أن يحل (يفرد) شعر البنت وجدائلها (ضفائر شعرها).. فضلاً عن ذلك، فقد تحمم المستحمات بعضهن بعضاً.
والمسعدات (الميسورات) يحاولن الاستحمام حول جرن الشيخ بالجواني، أو حول أجران المقاصير المتفرعة عن إيواني الجواني، معتمدات على الأوسطة باستحمامهن، وذلك بمساعدة البلانة، وهذه البلانة تقوم أيضاً بزق (نقل) الماء البارد إلى أجران الاستحمام، كما أن عليها أن تقوم بتخمير الحناء، لحشو شعور المسنات بهذه الحناء عقب انتهاء استحمامهن، وذلك كي تحافظ شعورهن على لونها الذهبي.

سيران للطعام في الحمام
ولطعام الحمام كما أشرنا أهمية خاصة، لطول مدة قضاء النسوة بالحمام للاستحمام التي قد تمتد إلى خمس ساعات (من الظهر حتى المغرب).
فضلاً عن ذلك، فإن طعام الحمام يعكس شكلاً من أشكال العلاقات الاجتماعية بين المستحمات، ويستطيع المرء أن يتعرف إلى الكثير من العادات والتقاليد ما يتناسب مع مستوى المستحمة الاجتماعي والمالي.
فالمستورات المتوسطات الحال من الناحية المادية، ينزوين بجانب من جناح الوسطاني، ويفترشن الأرض، يتناولن طعامهن، من حواضر البيت كالزيتون والزعتر بالزيت والجبن، واللبن المصفى (اللبنة) والمكدوس وغير ذلك من أصناف الطعام التقليدي بالحمام، وقد يعددن طعاماً مشتركاً من المجدرة، أو اليهودي مسافر (البرغل بالفول) مع طواجين المخلل باللفت، والمخلل بالخيار أو الفليفلة، وقد يكون ذلك الطعام من الكشكة الخضراء بالزيت مع مفروم الجوز بعد تزيينها ببضع حبات من الزيتون الأسود أو يكون هذا الطعام على شكل وجبة من الحراء إصبعه، المكون من مسلوق العدس والمطهو بالزيت مع كسر الخبز اليابس، أو (العجين) مع الكزبرة والثوم، والبصل المفروم على شكل جوانح مقلية بالزيت.

والطعام طبقات
ولا يخلو طعام المسعدات (الميسورات) اللواتي يتباهين بطعامهن من الصفيحة، وهي لحم مفروم مع البصل المفروم والحامض والبهارات واللبن يفرد على عجين مرقوق ويخبز، وكذلك شواء اللحم الكباب أو الشقف مع السلطة، وقد يكون ذلك الطعام جاهزاً من عند العشي، من الخاروف المحشي المجلل باللحم المسلوق والقلوبات، فضلاً عن الفطائر والبرك ولا تخلو فترة الطعام من المرح والدعابة، كأن تقسم إحداهن على أخرى بتناول لقمة من يدها، اشتهتها لها، أو تقوم أخرى بلعق أواني الطعام، وقد تعمد واحدة إلى لفحطة (دهن) أخرى جالسة إلى جوارها، وقد يتخاطفن الطعام على سبيل الدعابة.
إذا انتهين من الطعام، يعاودن استكمال استحمامهن بجناح الجواني، من تفريك بالكيس وتلييف بالليفة والصابون، وسكب الماء الساخن عقب ذلك، ويأتي بعد ذلك دور تسريح الشعر وتعطيره بالترابة الحلبية المحلولة بالماء، ثم جدل ذلك الشعر على شكل ضفائر، وبالطبع لا تنسى المسنات، حشو الحناء بشعرهن، لإكسابه اللون المناسب بذلك ينتهي الاستحمام عند النساء، فيخرجن بالمناشف إلى الوسطاني إذا كان الطقس شتاء، أما في فصل الصيف فيكون خروجهن إلى البراني بعد استراحة قصيرة على مساطب الوسطاني، ويكون خروجهن لارتداء ملابسهن بمساعدة الناطورة.. ومن ثم يباشرن ارتداء ملابسهن.
بعد ذلك يجري دفع أجر (وفاء) الاستحمام إلى المعلمة، وبالتالي إكرام العاملات بالحمام من الريّسة إلى الناطورة والبلانة، ويُودعن بالاحترام والتبريك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن