المساحة الممكنة للتفاوض
| مازن بلال
ينقل إخفاق جولات جنيف واقعاً خاصاً لبنية العملية التفاوضية، فلا الأمم المتحدة ولا حتى الدول الفاعلة في هذا الأمر قادرة على تحديد المساحة الممكنة للتفاوض، فلقاءات جنيف تنعقد في ظل احتمالات للتصعيد داخل سورية لا يمكن ضبطها، فالمجال الجوي السوري ما يزال مسرحاً محتملاً لاختبارات القوة بين موسكو وواشنطن، وعلى الأرض فإن الميليشيات المسلحة مستمرة في تحسين إداراتها لمناطق وجودها رغم انحسار خطر داعش، وعلى المستوى الدولي هناك شرط غائب متعلق بالحدود الخاصة للنظام الدولي على الأرض السوري، فخريطة المصالح مبهمة على حين تحاول العواصم العالمية تجميع القوى الإقليمية من حولها.
ربما الأهم من الموضوع الدولي في تحديد مساحة التفاوض المتاحة في جنيف هو الشرط السوري، فالمسألة ليست في الاتهامات التي توجه لبعض أطراف المعارضة بالارتهان للخارج، أو حتى باتهامات المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لدمشق بمسؤوليتها عن إخفاق الجولة الحالية، إنما في أن الأطراف تتفاوض ضمن نطاق مفتوح يبحث في التحولات الكبرى التي يمكن إحداثها في سورية، في وقت هناك إشارات استفهام حول قدرة القوة المتفاوضة على تحمل مشروع يحمل هذا الكم من التحول؛ داخل إقليم ومجتمع سوري يعيش حرباً طاحنة منذ سبع سنوات.
عملياً، فإن الاتهام الموجه إعلامياً لوفد الحكومة السورية بأنها تتعامل وكأنها المنتصر في الصراع؛ لا ينبع من الوضع العسكري الذي هو عامل مهم، بل من تحديد أولوية إستراتيجية غائبة بالنسبة للأطراف الأخرى، فالوفد الحكومي هو الذي يُقدر إمكانية التعامل على الأرض مع مقترحات التفاوض المطروحة على الطاولة، أما أطراف التفاوض، فهي ترى أن البدء بعمليات التغيير، أو ما يطلقون عليه المرحلة الانتقالية، ستتيح اختباراً برعاية دولية لتطوير قدرتها على خلق حوامل لمشروعها ضمن السلال التي طرحها دي ميستورا وعلى الأخص الدستور والانتخابات.
إن مساحة التفاوض الممكنة في سلال دي ميستورا ليست مفتوحة على إمكانيات واسعة، وهي قابلة لتحقيق تحولات ضمن شرط داخلي بالدرجة الأولى يأخذ بعين الاعتبار حسابات غياب قدرة القوى السياسية على خلق موازين جديدة، فهي قوى ظهرت على هامش الأزمة أو بلورت هيكلية لها في الخارج برعاية دولية، فالحلول المستندة لأوهام الاعتماد على برامج سياسية، ربما تدخل امتحاناً صعباً لحظة البدء بها على الأرض السورية، وما هو ممكن محكوم بأمرين أساسيين: الأول هو قوى الأمر الواقع المفروضة دولياً، لأن سورية غدت ضمن مجال صراع دولي، والثاني ما يفرضه الداخل السوري من ظرف ارتسم عبر سنوات الأزمة مُزيحا إمكانية التعامل مع هامش سياسي عريض لمصلحة توازن اجتماعي متشابك بقوة مع كل مفاصل الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية.
عندما تحدث دي ميستورا عن إمكانية تفكك سورية، إذا لم تنطلق العملية السياسية؛ فإنه استند إلى قاعدة دولية في فض النزاعات تعتمد تحول الاستقطاب الدولي إلى انقسام اجتماعي، وهذا الأمر يظهر بشكل خاص على طاولة المفاوضات في جنيف، وترسخه الأمم المتحدة والمنظمات الدولية غير الحكومية عبر نشاطاتها في مختلف المناطق السورية، وهو ما يدفع إلى العودة لفهم مساحة التفاوض الممكنة وفق الواقع السوري، وإلى العودة للحديث مجدداً عن ممكنات الحوار داخلياً لتوفير بيئة سياسية عوضاً عن البقاء في نطاق الوهم بـ«معجزة» المرحلة الانتقالية أو غيرها من المصطلحات.