ثقافة وفن

سميحة أيوب وسورية

| إسماعيل مروة

صوتان لم تختلف نبرة كل منهما منذ أول مرة استمعت إليهما، ومن حسن الحظ أن صوتاً منهما هو من سورية، صوت السيدة الكبيرة سميحة أيوب، وصوت السيدة منى واصف، نبرة متماثلة بودها وفرحها وترحيبها، وما زلت أذكر قبل أكثر من عشرين عاماً حين توجست طويلاً حتى استطاعت أصابعي أن تطاوعني بضرب رقم هاتفها في القاهرة، ردت السيدة سميحة أيوب وكأنها تؤدي دوراً إغريقياً عظيماً في مسرح عتيق ما زاد من رهبتها، وعندما أردت تعريفها بنفسي كانت أكثر من كبيرة، وقالت: «لا داعي للتعريف، ما دمت من الشام، غداً ليس عندي مسرح، نلتقي في الخامسة مساء في بيتي في الزمالك، عمارة أم كلثوم» وتابعت وسط صمتي، لا أحد ينسى أم كلثوم والزمالك.. وجلست أترقب هذا الموعد الذي يفصلني عنه قرابة عشرون ساعة، فماذا سأقول؟ وماذا سأتحدث؟ وأنا لم أكن أكتب لمنبر إعلامي، وزيارتي كانت إجازة من عملي الجامعي في مدينة العين… في الخامسة تماماً أردت قرع الجرس فانفتح الباب، وكان أول شيء قالته السيدة: شكراً لاحترام الوقت، فقد رأيتك تقف قبل دقائق أمام الباب. كانت بلباسها الأسود الأنيق، وقد تم تحضير الشاي، وبدأ الحديث عن مسرحها ودراماها وشخصياتها وذكرياتها، ووصلنا بالحديث إلى علاقتها بسورية، وذكرت لها حضوري لقاءاتها مع الراحل سعد الدين وهبة في دمشق، عندما كانا يحلان مكرمين على سورية، وهنا تغيرت لهجة سيدة المسرح والسيدة الأنيقة، وأعدت فنجانين من قهوة، وهي تقول: أنتم تحبون القهوة، وجلسنا نرقب النيل الهادئ المضيء والسيدة الجليلة تتحدث عن سعد الدين وهبة، وعن سورية، وعن اتفاقيات كامب ديفيد، وعن العلاقة الوطيدة المحترمة التي كانت تربطها وسعد الدين وهبة بالرئيس حافظ الأسد، كما كانت تربط أغلب المثقفين الذين لم يرضوا عن اتفاقيات كامب ديفيد، وعن زيارة السادات للقدس… كم كانت السيدة فخورة بسعد ومواقفه ومسرحياته، تتحدث عنه كأنه موجود معنا، ولا تظهر الحقيقة إلا بدمعة تذرفها السيدة مع كلمة سعد.. يومها استمرت جلستنا ساعات ونسينا الوقت والنيل يدفع أرواحنا إلى النسيان، فالشام حاضرة وبردى ينساب مع النيل… وكانت الجلسة التالية مع صديقتها الكاتبة فتحية العسال التي تحمل الموقف نفسه، وأنا أرقب سيدتين مختلفتين بكل التفاصيل من رأي وسياسة وثقافة وشخصية… أعدت السيدة الوفية للراحل سعد الدين وهبة كتاباً تكريمياً خاصاً عنه بعد رحيله شارك فيه محبوه وأصدقاؤه وعشاق مسرحه، وقدمت نسخة من هذا الكتاب لي عربوناً للقاهرة والشام.
كنت أظن أن هذا اللقاء هو الأخير مع السيدة سميحة أيوب، وهو يكفي لمن هو مثلي عندما يقف عند تاريخ حقيقي لسيدة تعرف ما تريد، وتفتخر بالمسيرة الجميلة لها مع الكبير محمود مرسي، ومع سيد المسرح كتابة وعشقاً، صاحب المحروسة سعد الدين وهبة، كلاهما عندها محترم، تأتي على مسيرة مجيدة لكليهما، لا تسمع منها انتقاصاً لأحدهما، وهي تشير إلى جناح من البيت حيث يجلس ابنها الدكتور ابن مرسي، فعبق كليهما ينتشر فوق النيل من سيدة تتصالح مع كل لحظاتها.
لم أقدر يومها أن أشكر لطفها لاستقبالي، ولم أتمكن من الإشادة بأخلاق الكبار الذين يزيدهم تاريخهم تواضعاً واحتراماً، فقد تنبهت إلى أنني إن شكرتها فسأكون سلبياً، وكأنني لا أتوقع هذا التصرف في أخلاقياتها وتعاملها…
سميحة أيوب على المسرح الكبير تختصره بوجه وصوت.
في الدراما الأم الصعيدية القاسية التي تعيش الثأر ولا ترتجف.
الأم الحنون التي تدفع حياتها لأسرتها.
في كل لحظاتها وفي كل أدوارها كانت سميحة أيوب الشخصية الطاغية التي لا تتمكن شخصية أخرى من منافستها طغيان حضورها الفني العالي، فكانت علامة الفن العربي الأصيل، والمصري ضمناً، وكانت الشخصية المثقفة المتنورة التي تعبر عن جوهر الفنان المسرحي تحديداً.
لا تذهب من الخاطر تعابير صوتها وتقاسيم حركاتها ونبرة صوتها وهي تتحدث عن الرئيس حافظ الأسد وعن علاقتها وسعد الدين وهبة بسورية ورئيسها، وهو الذي استقبلهما مرات عدة في دمشق وأبدى دعماً غير محدود لهما ولرؤاهما وكذلك عن تفاعله وتواصله مع مرض سعد الدين وهبة ورحيله الذي ترك فيها أثراً طويلاً، إذ قلما تخلع السواد بعد سنوات من رحيله في تلك الزيارة. وبعد انتهاء عملي الخارجي وعودتي إلى سورية، يتصل الصديق الراحل أسامة أنور عكاشة ليبلغني أنه يجب أن يراني، وأن صداقتنا صارت قدراً، ويقول: إن السيدة سميحة أيوب سألت عنك، وبعد يومين سيبدأ عرض مسرحيتهما (الناس اللي في التالت) وهي من بطولتها وتأليف أسامة، وكان معي على الهاتف، رحم الله أيام زمان، عندما حجزت تذكرة إلى القاهرة، وأخبرته أنني غداً في السادسة والنصف مساءً سأكون في مطار القاهرة الدولي، لأدخلها آمناً.
كنت في القاهرة في الموعد المحدد، وكان ابن أسامة بانتظاري، وحين وصلنا إلى السيارة كان أسامة بالانتظار، وأعرب عن أسفه لأن المرض منعه من الوقوف بسبب الاستسقاء وتضخم في القدمين.
في اليوم نفسه زرت السيدة سميحة أيوب التي كانت تستعد للعرض المهم جداً، والذي قدّم فيه أسامة ناقوس خطر لما جرى ويجري في مصر، وما زلت أذكر عندما اتصلت بالسيدة فتحية لتدعوها إلى الشاي قائلة لها: يا فتحية دا الواد السوري اسمعين هنا.
وكان عرضاً يحمل نكهة مصر وأسامة وسميحة، وسعد الدين وهبة، وعلى المسرح القومي في ميدان العتبة، كان العرض الأخير الذي أشهده مع أسامة، وأرى كبرياء المسرح في شخص السيدة الراقية المبدعة سميحة أيوب، وعلى صفحات مجلة «الشهر» أفسح السيد رئيس التحرير الأستاذ وضاح عبد ربه الصفحات للمسرحية والتعريف بها، وللسيدة سميحة أيوب وما كتب عنها، وللراحل الكبير أسامة أنور عكاشة وما كتبه من رؤى فكرية وسياسية وأدبية كأنها تصور اليوم.
سألت نفسي كثيراً: كم من الصعوبة يمكن أن أجد للتعريف بنفسي، وخاصة في ذلك الوقت لأتواصل مع فنان مبتدئ، سواء في القاهرة أو في دمشق؟! بل مع أديب مبتدئ! لكن سميحة أيوب تلح على الذاكرة بثقافتها واحترامها، وهي القامة التي لم تشأ أن تأخذ تعريفاً عمّن سيزورها في بيتها في عمارة أم كلثوم… وقلت: هذا لم يحدث حتى مع الأصدقاء المقربين، وكان حكراً على الذين تمتعوا بأصالة نادرة، وعوداً على بدء، وحدها منى واصف في سورية أخبرها بمناسبة، فأجدها ترقب خطواتي وتدعو لي، وتبقى حتى اللحظة الأخيرة، ووحدها إن رأت الرقم، وإن لم تعرف صاحبه، تعيد الاتصال وتعبر عن الاحترام والشوق، وحدها تتصل لتقول: قهوتك في الوقت الذي تحدده، إما يوم كذا وإما يوم كذا، وفي الساعة…
بينما يبقى طنين الهاتف يصفع أذنك أمام من لا تاريخ له!
إليك السلام سيدة سميحة أيوب في أي صومعة كنت، لأنك محروسة سعد الدين وهبة ومحروسة الفن المصري والعربي الأصيل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن