تعقيدات استعادة العلاقات السورية الأوروبية
| أنس وهيب الكردي
مثـــّــل التراشق بين دمشق وباريس نهاية الآمال للبعض في أوروبا، بإمكانية عودة قريبة للعلاقات الدبلوماسية ما بين سورية وأغلبية دول الاتحاد الأوروبي، ونبعت تلك الآمال من رغبة صادقة لدى بعض القطاعات السياسية والاجتماعية الأوروبية، بالانفتاح على دمشق بعد سنوات من القطيعة، وأيضاً من طموح الشركات ومؤسسات الأعمال الأوروبية بالمساهمة في عملية إعادة سورية.
ومع وصول الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون إلى قصر الأليزيه ربيع هذا العام، تجددت الآمال بإمكانية إحداثه قطعاً مع سياسة سلفه فرنسوا هولاند المتشدد حيال الأزمة السورية، سياسة وفرت مظلة قوية للمعارضة الساعية إلى إسقاط النظام، وعزز قاطن الأليزيه الجديد هذه الآمال نتيجة تصريحات متكررة له، مثلت انقلاباً في الخطاب الفرنسي، بالأخص حيال الرئيس بشار الأسد.
أجرى ماكرون تغييراً موازياً في مقاربة باريس للدور الإيراني في الشرق الأوسط، مبشراً بإمكانية سحب فرنسا إلى الحياد على الأقل، بعيداً عن اصطفافها إلى جانب الرياض في صراعها مع طهران على الهيمنة الإقليمية، وتحسن العلاقات الفرنسية الإيرانية ساهم في تصاعد الآمال، بتحقيق اختراق مماثل في العلاقات الفرنسية السورية، وكان الحماس لإعادة العلاقات ما بين دمشق والعواصم الأوروبية على أشده في إيطاليا، وشهدت الأعوام الماضية عدة محاولات لإعادة العلاقات الدبلوماسية ما بين روما ودمشق.
الأسباب العميقة وراء تعثر الجهود لإعادة البعثات الأوروبية الدبلوماسية إلى العاصمة السورية، تنبع بشكل أساسي من تعقيدات ترتبط بمجريات الأزمة التي شهدتها سورية خلال السنوات الماضية، فلم تذهب دول الاتحاد الأوروبي بعيداً في دعمها للمعارضة بشقيها المسلح والسياسي، فارضةً سلاسل من العقوبات الاقتصادية على السلطات السورية، فحسب، بل إن دولاً أوروبية أرست وجوداً عسكرياً شرقي سورية، تحت مظلة التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، وبعضها، كفرنسا مثلاً، تصر على أن قواتها باقية حتى في مرحلة ما بعد داعش.
من الطبيعي أن الحكومة السورية تشترط لعودة التمثيل الدبلوماسي الأوروبي في دمشق، ليس فقط توقف الدعم السياسي للمعارضة، أو رفع العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي، بل أيضاً انسحاب القوات الأميركية والفرنسية وغيرها من شرقي سورية، لأن إعادة افتتاح سفارة فرنسا في دمشق، في حين توجد قوات لهذه الدولة على الأرض السورية من دون موافقة الحكومة السورية، يمثل اعترافاً بأمر واقع.
من جهة أخرى، استخدمت الدول الأوروبية، بالأخص لندن وباريس، الأزمة السورية مدخلاً لإرساء نفوذها في الشرق الأوسط سعياً وراء تحقيق مشروعاتها الاقتصادية، النفطية والغازية، وهكذا دخلت دول الاتحاد الأوروبي في مواجهة جيوبوليتكية مع روسيا وإيران، وكانت المصالح الأوروبية تتصارع بشدة مع المصالح الروسية ليس فقط في سورية، وإنما في ليبيا أيضاً، وخرجت موسكو وطهران بنهاية المواجهة الجيوبوليتيكية فائزتين، خصوصاً بعد نجاحهما في جذب تركيا إلى صفهما وإطلاق عملية أستانا، بعيداً عن مسار جنيف وكل من أوروبا والولايات المتحدة، وأنقرة ليست حزينة على تضييق هامش المناورة الأوروبية في سورية، ولاسيما أن تركيا غاضبة حيال الدعم الأميركي والأوروبي لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية، بينما لا تزال التوترات تتعالى في الخلفية ما بين تركيا وألمانيا الدولة القيادية في الاتحاد الأوروبي.
رد بروكسل على تهميش روسيا للعواصم الأوروبية واستبعادها عن التسوية السياسية للأزمة السورية، جاء باشتراط الاتحاد الأوروبي تحقيق مسار جنيف تقدماً وبدء عملية انتقال سياسي للمساهمة في عملية إعادة إعمار سورية، في محاولة أوروبية لابتزاز موسكو على الصعيد الاقتصادي. ووقت ضغطت واشنطن من أجل إعادة النظر في الاتفاق النووي الإيراني، وجدت طهران في أوروبا مدافعاً صلباً عن الاتفاق، ما أسهم في عودة الدفء للعلاقات الإيرانية الأوروبية، إلا أن انسياق أوروبا مع نظرة إدارة دونالد ترامب حيال النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط وبرنامج طهران للصورايخ البالستية، ألقى بظلاله على التقارب الناشئ بين إيران وكثير من البلدان الأوروبية، وهذا بدوره انعكس سلباً على رغبة طهران في تأدية أي جهود لتحسين العلاقات السورية الأوروبية.
هكذا، ينتهي العام الجاري في حين تدور مسألة إعادة البعثات الدبلوماسية الأوروبية إلى دمشق في حلقة مفرغة، فالحكومة السورية تشترط رفع العقوبات الأوروبية وخروج القوات الأجنبية من شرق وشمال سورية لتحقيق ذلك، إما الاتحاد الأوروبي فيصر على إحداث تقدم في مفاوضات جنيف للمشاركة في عملية إعادة إعمار سورية، وهو الأمر الذي تعلقه موسكو بانتظار تبلور اختراق تقوده مع حليفتيها طهران وأنقرة، عبر مسار أستانا ومؤتمر سوتشي، اللذين تعمل دول أوروبية على عرقلتهما بطرق خفية.