ثقافة وفن

صفوان بهلوان وسيمفونيته أوغاريت

د. علي القيّم : 

بين طرطوس وجزيرة أرواد، يتنقّل الموسيقار الكبير صفوان بهلوان، بحثاً عن نفحة جديدة يضيفها لتفاصيل الصوت وتحولاته الكيميائية، قبل أن تستقر في الأذن، وتتذوق ذاك المزيج الرائع بين نغمات عوده الساحرة، وصوته العذب القوي النادر الوجود على امتداد الساحة الغنائية العربية.
بين حنين كئيب حزين، وتجديد شرقي يحمل في عوده وصوته أفراح شعب ومآسيه يطل علينا جديده «الشعب السوري واحد».. الموسيقا عند صفوان منذ بداياته الأولى قبل أربعة عقود من الزمن، كانت وما زالت عنوان المحبة والفرح، والمجد والأرض والبحر والحوار بين البشر، والدين الأقرب إلى الله تعالى… من صوته الذي يمتلك مقومات وعرباً لا حدود لجمالهما وروعتهما تبدأ رحلة البحث عن مقومات «الجمال الموسيقي» وجذور الأصالة في «الربان والعاصفة» و«شممت تربك» و«يا شام» و«لنا الأرض» و«سيمفونية أوغاريت»… لقد حمل سوريته في قلبه وعقله إلى شتى أرجاء العالم، يجول بين ماض مجيد وحاضر يحلم به في غد مشرق جميل.. كان دائم البحث عن صيغة لحنية «بهلوانية» أصيلة، فيها الشعور المستمر بالحنين، والتجديد الذي لا قرار له.. موسيقاه وألحانه جوالة، نلاحق أخبارها في المؤتمرات والمهرجانات ودار الأوبرا المصرية، ولكنها- بكل أسف- نادرة الحضور على الساحة السورية والسبب يعود لعدم وجود صيغة ترويجية لأعمال مبدعينا، ولأننا في تربيتنا مازلنا نجد في الموسيقا مضيعة للوقت واستهجاناً، وأن الموسيقا لا تطعم خبزاً ولا توفر لصاحبها عيش الرخاء.. وصفوان بهلوان تجاوز هذه المرحلة منذ سنوات طويلة، وحقق شهرة عربية وعالمية كبيرة، أكسبته المجد ومحبة الناس واحترام نقاد الفن الموسيقي.
صفوان بهلوان اعتمد في أعماله وموسيقاه، التوازن، والأصالة والتجديد والجمال المبني على المقدرة والتمكن من منح المستمع الشعور بقيمتها وتصور مضامينها وجذورها الشرقية الداعية إلى التأمل والسكون… عود صفوان كان وما زال دائماً نجماً بارزاً في جميع أعماله في حفلاته… دائماً يمنحه الأولوية، حتى في أعماله الأوركسترالية الضخمة التي أنجزها خارج سورية، وهذا ما أعطاها نكهة خاصة، برزت فيها قدرته الفائقة في ترويج هذه الآلة الشرقية الساحرة، التي كان هناك مَنْ ينادي من دعاة الفن والتجديد إلى إيداعها في المتاحف، ولكن صفوان أعاد لهذه الآلة مجدها الذي كان أيام فريد الأطرش والسنباطي والقصبجي ومحمد عبد الوهاب… لقد بحث عن نقاط القوة الكامنة في آلة العود، وما أكثرها، وقام بتوظيفها في الأماكن التي تبرز مؤهلاته الفنية، وكان في موسيقاه وأمسياته الحاضر دائماً، والعازفون المرافقون بشفافية أدائهم يرتبطون بآلة صفوان المفضلة، ولا يغفلون أوتارها لحظة.
أعمال صفوان الأوركسترالية، التي أكثرها لم ير النور- حتى الآن- أعرفها جيداً، وتابعت مسيرة إنجازها، مرحلة… مرحلة، تقوم على وعي وإدراك صادق بأهميتها وتأثيرها في الناس، موسيقا قائمة على فعل هندسي جد دقيق، فالتوزيع الذي يكتبه بنفسه، بين آلة موسيقية وأخرى، كلوحة فسيفسائية، لا يكتمل معناه إلا باستواء كل حجر في مكانه الأصيل، وعندما يلحن لا يفكر في شرقي وغربي، بل في النغمة المناسبة لموضوع العمل الذي يقوم بإنجازه ويرى في التراث الموسيقي فيما نصنعه اليوم للغد.
محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وسيد درويش ومحمد القصبجي بالنسبة إلى حاضرنا تراث، هؤلاء جددوا موسيقانا العربية، قد آن الآوان لكي نجدد بدورنا، ولكن التجديد لا يكون أصيلاً إلا إذا أدركنا جذوره، فبقدرما تغمر التربة جذور الشجرة في عمق الأرض، تعلو ورافة ومتشعبة… إنها الموسيقا التي انطلق منها صفوان بهلوان في كثير من أعماله التي رسخت بمشروعه الموسيقي الكبير، والتي يمكن أن تكون في قمتها «سيمفونية أوغاريت» التي انتهى من وضع اللمسات الأخيرة عليها منذ أكثر من ربع قرن عن بناء درامي كتبته له، مستمداً عناصره الأولى من النصوص الأدبية والميثولوجية التي اكتشفت في مدينة أوغاريت على الساحل السوري، وتعتمد في بنائها الدرامي على الإيقاع الأساسي لأنشودة العبادة الأوغاريتية، التي كانت سائدة في الألف الثاني قبل الميلاد، وتعد من أقدم المدونات الموسيقية التي اكتشفت في العالم، وفي هذا العمل الفريد من نوعه يقوم صفوان بهلوان بالمزج بين أساطيرنا وبين مورثاتنا الثقافية والفلكلورية الموجودة في ساحلنا السوري الجميل، وتتألف سيمفونية أوغاريت من ثلاث حركات، تختتم بنشيد كورالي ضخم يؤديه أكثر من خمسين منشداً ومنشدة، بأصوات متباينة وباللغة الأوغاريتية، بطريقة ساحرة وجذابة، قمت بصياغتها من وحي لهجة أوغاريت التي ما زال لها جذورها في لهجة سكان اللاذقية، وفق رؤية شمولية تشبه «نشيد الفرح» للألماني «شيلر» الذي ختم به «بيتهوفن» سيمفونيته التاسعة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن