ثقافة وفن

شرّح التشدد والتطرف من الخلية الأولى دون شعارات…«أحمد وكريستينا» عمل حاف إبهارياً..عميق في طروحاته

 إسماعيل مروة : 

في غمرة إنتاج الأعمال الدرامية العربية تسابق المنتجون والمؤلفون والنجوم والمخرجون والقنوات العارضة على إنجاز أعمال مكلفة، تعتمد الإبهار والأزياء المبالغ بها، والصورة السينمائية، والإخراج العالي، والمواقع المبهرة ثراء فاحشاً، أو قاعاً مؤلماً.. وقد لفت انتباهي ريبورتاج عن مسلسل يعد باسم (أحمد وكريستينا) واستفزني المخرج سمير حبشي الذي رأيت له أعمالاً جيدة بقوله: هذا عمل لبناني بحت، ليس فيه أحد أمه سورية أو من سورية، وربما كان يقول ذلك ردة فعل تجاه ما يراه اللبناني اجتياحاً للدراما السورية في لبنان، وما يراه السوريون اقتناص النجاح الكبير للدراما السورية لركوب الموجة والنهوض! وكلا الرأيين صحيح وسليم ولا غبار عليه من وجهة نظر أصحابه..

فضول المتابعة
المهم أن هذا التصريح المستفز جعلني أتابع هذا العمل بحلقاته 34 حلقة، والذي عرض على قناة واحدة من تأليف كلوديا مرشليان وتمثيل سابين ووسام صليبا، ومجموعة من الفنانين زينهم القديرة إلسي فرنيني والقدير جورج شلهوب اللذان أعاداني ثلاثة عقود في رومانسية الدراما اللبنانية أيام هند أبي اللمع وعبد المجيد المجذوب وإلسي فرنيني الثلاثي الأشهر في الدراما اللبنانية.
وأنا أشكر فضول المتابعة، فالحقيقة أن هذا العمل على بساطته وإيقاعه البطيء استطاع أن يأخذني بعيداً، وحبذا لو وقف عنده دراميو سورية الكبار، فالعمل يكتظ بالبساطة التي تصل إلى حد السذاجة، ولكننا في الوقت نفسه نقف أمام إنجاز عمل بتكاليف بسيطة نوعاً ما، وبقدر محدود من النجوم، وبرسالة مهمة وفقت الكاتبة في صنعها، وأجاد المخرج في إيصالها، وإن كان قد مطّ الحكاية التي لا تحتمل بشكل كبير..

البيئة والحفاظ عليها
قدم المخرج أعمالاً من قبل، وكانت مبهرة وفيها تكاليف إنتاجية عالية، وشارك فيها نجوم كبار، فالرجل مقتدر على تقديم الأعمال الكبيرة، لكنه وبحنكة الخبير تعامل مع النص كما يجب، فالنص يقدم بيئات طازجة، ولم يعمد المخرج إلى إظهارها إلا كما هي في بساطة الكنيسة والضيعة والأشخاص واللباس، وكان بإمكانه أن يختار أفخم الكنائس، والبيوت الفخمة في القرى، لكنه لم يفعل، وقدّم ما يتماشى مع النص وشخصياته وحكاياته، ولو جعل البيئة غير ذلك ما نجح، وأشيد بأنه نجح أيما نجاح في تقديم لوحة آسرة للطبيعة اللبنانية البكر التي لم تلوث، وهذا يذكرنا بالأعمال الأولى لنجدة أنزور التي قدمت الصورة المدهشة بلا بهرجة، وكل الأعمال السورية في فورة الدراما الأولى مثل «هجرة القلوب إلى القلوب» وغيره، وهنا تنبه حبشي إلى أن البساطة إبهار أيضاً.

نجوم في الأداء لا غير
على غير ما يريد العارضون، وبمخالفة لمبدعي الدراما السورية والعربية المشتركة سار حبشي، فقدم لنا (سابين) كريستينا ببساطة الفتاة وعصاميتها وقوتها، وبثوبها الفضفاض، لم يظهر جسدها ولم يتعرَّ، ولم تظهر تنانيرها القصيرة، بل قدمت العمل بلا مكياج يذكر من أوله إلى آخره، وبأثواب محدودة وبسيطة وأنيقة، وأظن أن سابين لن تمانع لو أراد المخرج غير ذلك، وبطله أحمد لم يغير الجينز والقميص والجاكيت، بل التسريحة البسيطة في كل العمل، وجميع شخصيات العمل كانت بلا رتوش، وحدها الغجرية كانت متزينة بما يناسب دورها وببساطة متناهية، وبقيت إلسي فرنيني الليدي المحترمة كما لو أنها في بيتها، كل هذا والنص في العمق من الحوار الذي يسترعي الانتباه ولا يخدش الحياء، عندما يرتبط أحمد بابنة عمه سوسن تسأله كريستينا: (نمت معها، ارتحت، رح تقولي متل العادة متل ما بيقولوا نمت غصب عني وكنت بتخيلك) لكن هذا الحوار مثله لم يحتج من حبشي إلى إغراء وسرير وتوابعهما، ووضع المشاهد أمام المعضلة الأهم فكرياً.. أي لم يهمش الفكرة لمصلحة الإبهار والأزياء وجمال سابين الحقيقي، والذي كان طاغياً على جمال الأخريات ببساطته.
لم يعتمد الجميع تأليفاً وتمثيلاً وإخراجاً وإنتاجاً إلا على الفكرة والبساطة ففي العمل رسالة قدمها من قبل حبشي، لكنها لم تصل بسبب اعتماد الإبهار.

التشريح للعنف من الجذور
لم يخل عمل عربي من الحديث عن التطرف، من عادل إمام وإلى عناية مشددة، ولكنني أزعم أن كل ما قدمته الدراما العربية عن التطرف لا قيمة له، فما قيمة أن تأتي برجل ملتح لتراقب أفعاله وتكتبها وتتابعها؟ ما أهمية أن يظهر رجل التطرف كما لو أنه نبت شيطاني، نكتفي بصب اللعنات عليه لتصرفاته، ولا يدرك أحدنا أن فيه ألف متطرف وهو لا يدري، في عمل (أحمد وكريستينا) قرأت ما يجب أن يكتب، قد لا تكون الكاتبة والمخرج معها ما قرأته، لكنني وجدت أن هذا العمل هو أنجح الأعمال العربية في تشريح التطرف والاعتدال، ومن دون لافتات، ولا حديث عن المؤاخاة، ومن دون حديث عن الوحدة الوطنية، فقد تناول مفهوم الحرية في الاختيار في حضن البيئة، ولننظر إلى الحوارات التي لم تعتمد التجميل في البيئة المسيحية عن الإسلام والمسلمين، وهذه الحوارات كانت بسبب وجود شخصية أحمد، ودخولها في حياة كريستينا والضيعة والأسرة المسيحية، دخل الحوار في مناطق محظورة ونجح، وأظهر الرفض ليس لأحمد وإنما للإسلام والمسلمين، وفي ضيعة أحمد كذلك كان الرفض للمسيحيين لكريستينا ومجتمعها، وبقي النفور حتى النهاية، حتى في تقسيم القرى والضياع أظهر وجود قرى مسيحية وأخرى مسلمة، ومن يشاهد ويعِ هذه الحوارات يدرك ذكاء النص والإخراج في إبرازها، فهو يدلنا على جذر التطرف والإرهاب، الجذر في البيئة، الجذر في العقول التي نحكم عليها بالبساطة، ولم يجنح النص إلى تجميل بيئة على حساب أخرى، بل أظهرهما على أنهما بيئتان متحجرتان متطرفتان، تقبل إحداهما الغلط إن كان منها، وترفض الصحيح من سواها، ألم يتفق الجميع على إلباس تهمة قتل (الأبونا) لأحمد لأنه مسلم؟ ولكن الحب وحده أنقذه حتى تم التوصل إلى الحقيقة ألم يرفض أهل أحمد كريستينا لأنها مسيحية وقام والده بزيارة أهلها وتوبيخهم؟ حتى هزمه الحب الحقيقي؟

من التطرف إلى العنف والإرهاب
أخذ كثيرون على العمل قتل الأبونا، ولكن العمل نصاً وإخراجاً نجح في محوريات العنف، فالرجل المتسامح القابل للاعتذار يقتل، ويقتله التطرف الذي تحول إلى إرهاب عندما أدرك أن الأبونا لن يخرج عن حدود ما أمره الكتاب المقدس، ونجح في مقتل زوج عائدة المسيحي الذي تزوجها وهي المسلمة، فقتل ولا تدري من قتله أهم أهلها أم أهله؟ لكنهم لم يقتلوا بذرة الحب، فأحبت ومرة أخرى كانت مع مسيحي لتعيش سعادة ذاتها، ومقتل أبو جريس كان مهماً لأنه انتهاء لحاضنة عنف، فبقيت شجرته بعده عارية ولم تقو على مقاومة الحب، وفي التداعيات والذكريات نعرف أن أبا جريس كان محتقراً للآخرين، وكان متطرفاً تجاه إخوته وأولادهم وبناتهم، وأخته تحديداً، فكان متسلطاً يرهب الآخرين ليخرج منه جريس ومتى اللذان يريدان الاستمرار إلى أن يهزمهما الحب.
القتل جريمة وإرهاب، وكان نتيجة طبيعية في العمل لتطرف الأفكار الدينية البيئية، ولم يغير مع نهاية العمل أبو كريستينا موقفه، وفي ذلك دلالة واضحة على استمرار التطرف، وحدها الغجرية كانت الصائبة التي لم تغير رأيها في مفهوم العقيدة والشرائع والمذاهب، وتقول للآخر اقبلني كما أنا، وعند وفاة أبيها انتحبت ابنة، لكنها لم تهرع للتوبة كما اعتدنا تكفيراً عن خطئها، ولم تلحق بأمها وأختها إلى أستراليا.

الإقناع والضرورة
عندما ارتبط أحمد بابنة عمه امتلأت صفحات الفيس بوك بالتعليقات والشتائم، وبالانتظار نحصل على الإقناع، ففي مثل هذه البيئات المتشددة حد التطرف لن يتم الارتباط ببساطة، ولو تم فحكمه حكم عائدة وزوجها، ولكن حين تم الارتباط كيف يكون الحلّ! الحل كان مقنعاً وموفقاً، فالمرأة نفسها سوسن التي تتعلق بأحمد انتصرت لكرامتها، طلبت الطلاق، ولكن متى؟
عندما تعلمت، وبدأت طريقها في بيروت لتكتشف في لباسها وحديثها أنها امرأة تحب وتبحث عمن يحبها، وأنها لا تحب أحمد، وهي التي تقنع أهلها بطلبها، لينتصر الحب بصورة منطقية، وتتحرر المرأة من العادات والتقاليد وفي الحياة المدينية تختلف الأشياء.
تناقشت مع عديدين حول العمل، وهو متابع، أغلب المناقشين كانوا منساقين وراء حكاية الزواج المختلط، ومبهورين بالأعمال الأخرى التي امتلأت بالفخامة والأزياء والجميلات.
لا شك في أن ما قدمه صناع (أحمد وكريستينا) من خدمة للمجتمع وقضاياه، ومن طرائق لفهم التطرف وجذوره لم يستطع أن يقدمها عمل آخر كلف مئات الملايين! من أنفسنا وتشريحها وأمراضنا تبدأ رحلة العلاج، من قرانا ورجال الدين، من أبنائنا وآبائنا، من أمهاتنا وبناتنا، من قراءتنا لما نحن فيه، وليس من التنظير وتصوير النبت الذي اكتمل تطرفه وعنفه..
شكراً لصناع هذا العمل، إن قصدوا، وإن لم يقصدوا ما قرأته، وكم هو جميل أن يعاد عرضه على قنوات عديدة فما فيه يستحق أن يقرأ ويشاهد ويكون مثالاً.. ومن حق مخرجه أن يفاخر بصنعته المحلية الطازجة والصادقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن