فقدتُ قلمي
| د. نبيل طعمة
حتى قبل عشرين عاماً، جذبتني إليك حينما كنت تسكن خلف واجهة، تلقي السلامات إلى المارة المتطلّعين إلى كل شيء، سألتك هل ترافقني؟ لم تجبني، بل قفزت إلى صدري، وعلقت حضورك عليه، وذهبنا معاً وصولاً للحظة التي بتُّ فيها أبحث عنك، وأسألك يا قلمي الغالي والعزيز: هلّا مللتني بعد أن أنزلتك من ذاتي منزلة فكري، وكنت الوحيد المستمع لنبضات قلبي، تخفق معه، وتحصي خفقاته، ومع فراقك أستذكر صداقة السنين المديدة وانتظارك لي أن أمسك بك، وتجذبني إلى الورق، إرادتك أن يصل صوتك إلى أبعد مدى، ويدوم خالداً في أجوائه، كنت تأبى إلا أن تعلي لغة الإشارة إلى الصح الذي يحقق العدل بالمنطق والحكمة. أوَلم تكن صوت الناس والوطن؟ تسمع أنينهم، وتنقل أفراحهم وانتصاراتهم وحتى انكساراتهم، أوَلم تكن عاملاً فعالاً في بناء الأخلاق والفلسفة والحب والجمال، وأنَّ الحياة تستحق أن نحياها والتفكر فيها واختراقها بالعمل الجاد، لماذا لم يقدر أي إنسان على حمل اسم الله وبقاء تقديره الدقيق في كل اللغات، هل هو الخوف الحب سلطة الأديان؟
قلت عن المرأة إنها الملاك والشيطان، ولا يكون الرجل من دونها أبداً، فهي رسول الشيطان إن أخفق، وهو رسولها إن أخفقت، يَسيرٌ عليها أن تحمل الرجل إلى حبها، وعسير عليها أن تحمله على الوفاء لها، لذلك وجدت أنَّ المال يغريها في عزّ أنوثتها، ويأخذ بها إلى الشباب في كهولتها، فهي التي اكتشفت ذكورة الرجل، وهي التي تشاغله إن أفلح، وتستعبده إن فشل، وإذا تاهت حمل مسؤوليتها، وراح يحاكم ذاته، ويعترف إن أظهر عاهرة فإنه عاهر أزلي، وإن أنجز عالمةً يؤدّ واجبه الأخلاقي والإنساني الذي قسَّمه إلى نصفين؛ أي ذكر وأنثى، بحكم أنهما نبتا معاً، أو هبطا معاً، أو انقسما بعد أن كانا جسداً واحداً، يحمل وجهين أنثوياً وذكرياً، والدليل أن خلف الإنسان (ظهره) مسطح، ولا يمتلك أي مكون دال، على العكس تماماً من الأمام المُظهر لكامل المكونات بغاية إحداث التداخل؛ أي الاستمرار.
معك يا قلمي النفيس، أَبَيتَ أن تأخذني الريح إلى مهاوي الحياة، فَسَموتَ بي بعيداً عن التلون والتلوث، آمنت برأيي، وأسست لي شروطاً منعتني من الانحراف، كنت رجلاً إلى جانبي، بحكم أنك من جنس الذكورة، فأنجزنا للحياة أفكاراً، ملأتها القناعة وصوابية الضمير الحي، كنا معاً، وتبادلنا عزاً وشموخاً، صنعناه على المسار الوطني المديد رغم ما تلقينا من صعاب عليه، جلبنا لبعضنا الهموم والمتاعب والنقد المطوّر والخبيث القاهر من المحيط، وحضر إلينا الخير، ودار حولنا الكثير من الشرور، إلا أننا معاً كنا راضين حتى ملّنا حسادنا، وأُعجب بنا قراؤنا، كتبت يا قلمي عن العرب وما حل ويحل بهم، وعن غفواتهم المستمرة، وحاولت إيقاظهم، وكذلك فعلت حينما خططت عن المواطنين آلامهم وأحلامهم والمسؤولين وعلاقة كراسيّهم، ومن يمثل من حين جلوسهم عليها، وبحثت في خططهم التجريبية التي أدت إلى انهيارات مستمرة.
كثيراً تحدثنا عن الوحدة وتجاربها التي سقطت، والحرية التي لم تصل شعوبنا إليها نتاج عدم فهمهم لها، أو عدم وجود من يقدمها بشروطها الوجدانية والاشتراكية المرفوضة من الفكر الديني المستند إلى أفكار رأسمالية تجارية، تعتمد نظم المقايضة.
أظهرت حجم حقد الإعلام اللاعربي الناطق بالعربية على ذاته أولاً والعروبة والعرب ثانياً، وكيفية بثّ سمومه وخبثها أمام أيّ إشكالية تقع بين أقطارها، وطالبت بتوقفها لتنجو هذه الأمة من آثام إفكها المشين.
دوَّنت خلال رحلتك معي عن أن لدى العرب أزمات حكم وحكام وأنظمة لم يقدر كائن من كان على فهم أسباب وجودها، ومن ثمَّ أنشؤوا أزمات مفكرين وباحثين وأدباء وعلماء، وأنَّ لديهم أزمات قراء أو إبداع في الإنتاج، والسبب كامن في بحثنا معاً عن مسؤولية من أوصلنا إلى هذه الحالة، الفساد المالي والأخلاقي والإيماني والجنس، فأجيالنا فسد ذوقها الخاص، فكيف بالعام؟ وثقافتنا أصبحت تهددنا بدل أن تأخذ بيدنا، وأخلاقنا تائهة بين التديُّن والحداثة، وأنا وإياك يا قلمي نتابع دراسة هذه المواضيع، وكم دعونا لاتخاذ إجراءات حاسمة لبناء البشر قبل الحجر، وصحيح كما قلت: إن من ينجز سخفاً لا أحد يقرؤه، أو يتطلع إليه.
كان رأيك دائماً أننا نحيا عصر الانحطاط في كل شيء، تحاورت معي به، وبحثنا معاً عن نظم النهوض، ولحظة أن قررنا البدء والمسير إلى وضع الأجوبة، فقدتك أيها العزيز الذي قبعت مديداً على قلبي.
مُصِرٌّ أنا يا عزيزي على أن أجدك، أشعر بوجودك، وأجزم أنك قريب جداً مني، وعهدنا أن نستمر، فالمسيرة مازالت قائمة، والحياة لم تنضب مني، وكذلك حبرك الكثيف لم يجف، والأزمات العاصفة على جغرافيتنا متحركة تحتنا وحولنا، والمطلوب يفوق التوقع، ها أنت تعود إليَّ وبسرعة.
دعنا نخطّ أنَّ شعبنا العربي والسوري أضحى أكثر وعياً ونضجاً، وأخذ بزمام المبادرة بغاية فضح ما حيك له من مؤامرات، وما مورس عليه من ضغوطات، وأخذ من جديد يفيض بالعروبة، ومعها تنساب منه مشاعر القومية السخية التي حاولت تعطيلها أدوات الغدر والهيمنة.
أين العرب من كل ما يجري مع سورية؟ أوَلم يروا ويسمعوا ما جرى ويجري معها ومع اليمن والعراق وليبيا ولبنان وتونس؟ أوَلم تنبض قلوبهم ألماً وحزناً على الضحايا الشرفاء الذين دافعوا عن هذه الأمة لعقود، التي تسقط بأيدي الغدر وفتك النذالة وتنظيمات الإرهاب والحكومات والدول الداعمة لها والمشاركة في عدوانها عليهم.
يا قلمي يستمر الاستعمار القديم الحديث بشحذ قواه والتكشير عن أنيابه علناً، وفي أروقة الأحلاف الصهيوأميركية مع ما يسمى الحلف الخليجي الإسلامي، ومحاولات إيهام شعبنا العربي بأنه المهيمن والقائم على الشرق الأوسط برمَّته، وغايته الدائمة اغتيال عروبة وقومية الدول الوطنية، فهو مازال يضغط بكامل قواه، ويمارس شتى أنواع الابتزاز والاستفزاز لخلق أنواع من الارتباك في دول المنطقة كافة، ويتخذ منها مسوغات لتدخلاته الدائمة وتنفيذ مخططات تآمره عليها، فمن أجل كل ذلك أجد معك ضرورة الانضواء تحت راية وحدة وطنية، تهزم وتحبط كل ما يفكر به ويخطط له الحاقدون، واعدين المارقين من أمتنا بإنجازه على ساحتنا المحلية والعربية، على الرغم من إيماننا بأنهم لن يستطيعوا، إلا أنَّ الحذر واجبٌ، والإسراع بأخذ منظومة الوحدة الوطنية، يظهر ضرورة الاتجاه للتمسك بها، ويجب أن تتربع على كامل جدول الأهمية، ورجالات وطننا لديهم الشجاعة الكافية لمواجهة أعتى الظروف وأشدها صعوبةً ومرارةً.
كما تحدثت إلى الآخرين أني وجدتك، وعاد عهدنا إلى استمرار لغتنا المشتركة، وتعاهدنا على ألا يفقد أحدنا الآخر، وقررنا أن نستمر برويَّة وتمعُّن، لأنَّ الأحداث جسام، والمحيط لعوب، والداخل منتظر للحلول، والمسارات ممتلئة بالألغام، وعلينا الحذر الشديد فيما ننحو إليه، لأن الذي ينتظر النتاج متنوع المذاهب والمشارب والألوان التي ربما تخدعنا ونحن نسجل الأحداث المتسارعة، ونكتب معاً، وأكتب عنك، بأنك تكتب يا قلمي للأرض الأنثى، تكتب في رحم الدنيا، تكتب الإنسان.
تعال معي لأملأك حبراً، وآخذ تغذيتي مرة ثانية بعد أن التقيتك من جديد، نستريح قليلاً، ومن ثمَّ نعود لألتقيك في العام الجديد، فمازال لدينا الكثير كي ننجزه، والدرب طويل. إلى اللقاء بكم في عام 2018، كل عام وأنتم بألف خير.