قضايا وآراء

مفاعيل خلايا نائمة أخرى

| عبد المنعم علي عيسى

خرجت إلى العلن في الأسبوع الماضي مفاعيل أزمة كانت مؤجلة، أو أنه كانت تستكمل شروطها إلى حين نضوج عواملها، حتى إذا جاء الإعلان الأميركي القاضي بأن القوات الأميركية الموجودة في الشمال الشرقي من البلاد لن تخرج إلى أن تحقق مفاوضات جنيف تقدما ملموساً، بدا وكأن أوان «الخلايا النائمة الأخرى» قد جاء أجله، فقد شكل ذلك الإعلان الأميركي نذيراً استباقياً بأن مرحلة «استفتاء أيلول السوري» قد أزف أوانه.
في 26 من أيلول الماضي كان وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم قد أعلن: أن إعطاء حكم ذاتي للأكراد أمر قابل للتفاوض، ومن المؤكد أن الأكراد السوريين كانوا قد قرؤوا التصريح السابق على أنه تعبير عن حال الضعف الذي يعتري الدولة السورية، فهو جاء في اليوم التالي لاستفتاء أيلول الذي أجرته حكومة إقليم كردستان العراق، ما يعني أن التصريح، ليس أكثر من محاولة لوقف انتشار «الوباء» الكردي الآتي مما وراء الحدود السورية العراقية، وعلى الرغم من النتائج الكارثية التي أفضت إليه تلك الخطوة الانتحارية، إلا أن الكرد السوريين لا يبدو وكأنهم استوعبوا الدرس جيداً أو أن وراء «أكمتهم» ما وراءها، فهم وعلى الرغم من المعطيين السابقين، تصريح المعلم والانتكاسة التي أصابت المسعى الكردي في العراق، إلا أن ذلك لم يمنع من ذهاب الكرد نحو خطوات تصعيدية لا تبدو مبررة، فدمشق لم يصدر عنها أي تعديل على تصريحات المعلم، ولا الخطوة العراقية تغري بتكرار التجربة، لكن مع ذلك فنحن نرى أن الأكراد متحفزين لقفزة أخرى في الهواء، والسؤال لماذا؟ أو ما دوافعها التي تستند إليها؟
المتغير الحاصل الآن هو أن واشنطن بصدد التأسيس لبقاء طويل الأمد على الأراضي السورية، فقد أكدت تصريحات البنتاغون أن الوجود الأميركي في سورية «باق ويتمدد»، قبل أن يؤكد الساسة الأميركيون الأمر نفسه، بل ليس ذلك فحسب فالتقارير تقول إن واشنطن هي الآن بصدد زيادة عديد القوات الأميركية في الشمال السوري، ومن الجدير ذكره هنا هو أن معلومات غرفة عمليات حميميم تقول: إن عدد مقاتلي المعارضة السورية في قاعدة التنف ومحيطها يبلغ نحو 1700 مقاتل، وأن هناك 600 خبير ومستشار أميركي يقومون بمساعدتهم، تقول تلك التقارير أيضاً إن الزيادة سوف تكون بضم بقايا داعش أو الهاربين منها ومن أبناء العشائر العربية الموجودة في المحيط.
ومن المؤكد أن واشنطن إذ قرأت التجربة الكردية الأخيرة وطبيعة الوجود الكردي في سورية، فقد قررت إخراج «جيش سورية الجديد» من أرشيف أدراجها التي دخلها منذ أن تأسس في الأردن أيار من العام 2015، ومن المهم هنا أن نقول إن «جيش سورية الجديد» هذا هو غير «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، وإن كانت هذي الأخيرة هي مكون أساسي فيه، لكن ما استدعى اللجوء إلى إطار آخر أن بعضاً من فصائل «قسد» كانت قد أعلنت عن موالاتها لدمشق في أعقاب الإعلان عن هزيمة داعش، وفي حينها كان الإعلان الأميركي عن وقف دعم وتسليح تلك القوات وإن تم إظهار الصورة على أن القرار الأميركي قد جاء لتلبية المخاوف التركية.
تسعى واشنطن الآن إلى السيطرة على مزيد من الجغرافيا السورية عبر توسعة ودعم وتسليح «جيش سورية الجديد» الذي ستتسع مهامه لاحقاً لتشمل طرد القوات الكردية نفسها من المناطق التي تحوي آبار النفط، في خطوة تهدف إلى أن يستطيع المشروع الأميركي الصرف على نفسه بدلاً من رصد اعتماد له من البنتاغون أو CIA، على حين أن المعلن هو أن البقاء الأميركي يهدف إلى الضغط على الحكومة السورية في محادثات جنيف التي تجد نفسها، بحسب الرؤية الأميركية، غير مضطرة للاستجابة لمطالب المعارضة السورية بفعل توازنات الداخل وكذا التوازنات الإقليمية والدولية القائمة، وفي الآن ذاته يهدف إلى الضغط على موسكو التي كان قرار انسحابها من سورية، الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من حميميم في الحادي عشر من الشهر الجاري، ذراً للرماد في العيون كما ترى واشنطن، وكذا أنقرة التي تشاركها تلك الرؤيا.
بات اليوم من المؤكد أن واشنطن لا تزال تراهن على إمكان إحداث تغيير جيوسياسي في المنطقة الممتدة من منبج السورية في الغرب حتى حاجي عمران على الحدود العراقية الإيرانية في الشرق، وهي تستند في ذلك الرهان على المكون الكردي بشكل أساسي بعد محاولة تطعيمه بصبغة عربية بعدما تبدى لديها جيداً حجم العزلة التي يعاني منها هذا المكون الأخير جراء «سلة» الأخطاء التي ارتكبتها القيادات الكردية سواء في العراق أم في سورية، وفي ذاك يبدو أن الأغلبية من الفصائل الكردية تمضي نحو خيارات لا حول لها فيها ولا قوة، وهم وعلى الرغم من الخذلان الأميركي لأكراد العراق يظهرون التصاقا بالظهير الأميركي بدرجة أشد من ذي قبل، وربما استطاعت واشنطن إقناعهم بأن موقفها من الحراك الكردي الأخير إنما ينبع من رؤيا أميركية مفادها أن هذا الأخير قد جاء في الظرف واللحظة غير الصحيحين، ولذا ففي ضوء هذه المعطيات وحال الانجرار الكردي الفاضح، تبدو المواجهة بين الجيش السوري وميليشيات «قسد» حتمية وربما من الصعب تلافي حدوثها، ومن المؤكد أن تلك المواجهة سوف تدفع بالأكراد هذه المرة إلى الولوج في نفق «لوزان» الذي دخلوه في عام 1923 إلى أن شكل القرار 668 إلى عام 1991 فرصة للخروج لم تحسن القيادات الكردية التعاطي معها.
في المسار العام للحركات أو القوى، تبدو هناك في مرات عديدة أحداث تعبر عن دخول هذه الأخيرة عصر الجزر أو الانحسار تماماً كما شكلت هزيمة حزيران 1967 إيذاناً ببدء انحسار المد القومي العربي الذي كان قد بلغ أوجه مع الانتصار السياسي الذي حققه عبد الناصر في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر 1956، وإذا ما أيقنا أن بداية المد القومي الكردي كان في العام 2003 بالتزامن مع الغزو الأميركي للعراق فنحن سنصل إلى نتيجة مهمة مفادها أن ذلك المد لم يستند في نهوضه إلى عوامل داخلية شكلت مبرراً لحدوثه، وإنما كان ذلك بفعل عوامل خارجية صرفة كان حجر الزاوية فيها هو المشروع الأميركي بإعادة ترتيب المنطقة انطلاقاً من الجغرافيا العراقية، ومن ثم جاءت الحرب على داعش لتشكل فرصة سانحة أمام ذلك المد لكي يفرض العديد من الأجندة الخاصة به أو أن تؤمن له مكتسبات كان من الصعب عليه تحقيقها دونها، ولذا فإنه عندما حاول الاستناد إلى الظهير الداخلي من دون دعم الخارج كما كان الأمر عليه في أيلول الماضي، تهتك القشر ليبان اللب كاشفاً عن حالة فاضحة قصوى من الوهن وهو ما تبدى جلياً في كركوك تشرين الأول الماضي، ومن المؤكد أن هذا الحدث الأخير هو مؤشر على دخول المد الكردي مرحلة الانحسار، وما لا تزال الأحداث الراهنة تؤكده، ما يفسر ما تشهده مدينة السليمانية منذ شهر، ولا تزال ماضية في سعارها الذي يهدد بنسف كل ما تحقق قبل ما يقرب من عقد ونصف من الآن.
تعاملت القيادات الكردية مع السياسة كقيمة استعمالية، بمعنى أن قيمتها تتحدد في السوق، وإذا ما كان هذا الأمر متاحاً أمام الدول التي أنجزت مهامها الوطنية والقومية، إلا أنة يمثل خطأ فادحاً بالنسبة للحركات التي تمر بحالات من نوع استيقاظ الشعور القومي أو رسم معالم الكيان السياسي الذي تطمح إليه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن