14 ضد 1
| عبد المنعم علي عيسى
استطاعت الولايات المتحدة أن تسقط بالفيتو يوم 17 من الشهر الجاري مشروع القرار المصري الذي كان يهدف إلى سحب القرار الأميركي القاضي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لدولة إسرائيل، لكن على الرغم من ذلك فقد كشفت جلسة التصويت، بعيداً عن العزلة الأميركية، عن حالة تضاد أميركية بريطانية غير مسبوقة، أو أنها لم تظهر بتلك الحدة التي ظهرت فيها منذ أن انتهى العدوان الثلاثي على مصر 1956 إلى ما انتهى إليه، بل على العكس فقد كانت بريطانيا على الدوام رفيقة دروب العزلة الأميركية، حتى في تلك التي وقفت فيها معراة تماما كما حصل إبان غزوها للعراق 2003 التي أطلق عليها «حرب بوش» لشدة ابتعاد الكل عنها، ووحدها كانت بريطانيا شريكة المسار والمصير، حدة الموقف أو التضاد عبر عنها المندوب البريطاني في الأمم المتحدة ماثيو رايكروفت الذي قال: إن القرار الأميركي بشأن القدس لاغ وباطل وإن الطابع الديموغرافي للقدس لا ينبغي تغييره، وبذا يمكن القول: إن الموقف البريطاني جاء متقدما بدرجة لم تكن معهودة إذ لطالما ولدت دولة إسرائيل في الرحم وترعرعت في السرير البريطانيين عندما كانت هذي الأخيرة قطبا عالميا يمثل العالم الرأسمالي أو الحر كما يطلق عليه أحياناً، لكن على الرغم من ذلك لا يمكن تفسير الأمر على أنه تكفير عن الذنوب التي ارتكبتها بريطانيا بحق فلسطين الأرض والشعب، فهكذا قيم أو سلوكيات لا مكان لها في البراغماتية المفرطة الراهنة التي باتت بحاجة إلى تسمية أخرى تعبر عن الحالة التي وصلت إليها هذه الأخيرة، خصوصاً في الإمبراطوريات المنهارة التي يرتفع فيها حيز المنفعة على حساب أي حيز آخر أملاً في تعويض الخسائر والبقاء في دائرة التوهج والأضواء.
وإذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن العلاقة البريطانية الأميركية هي علاقة عضوية أو رحمية، وهو ما حاول الطرفان تأكيده في كثير من الأزمات، فعشية غزو العراق كانت وسائل الإعلام الأميركية، حتى الرصينة منها، تقول إن الرئيس جورج بوش، الأب أو الابن لا فرق، يعود في أصوله إلى القبائل الانجلو ساكسونية البريطانية التي ينتمي إليها رئيس الوزراء طوني بلير أيضاً، فإن الموقف البريطاني المتضاد مع نظيره الأميركي قد يفهم على أنه تخلفا بريطانيا عن اللحاق بالنزعة الصهيو مسيحية السائدة والتي تملأ غرف ودوائر صنع القرارات الأميركية، وربما كان ذاك التخلف مؤشرا على مسعى بريطاني مغرق في إيغاله بالخصوصية الذاتية التي يعتبر قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي تدشينا لها.
رسم الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد الفشل في مجلس الأمن مشهداً آخر له العديد من المؤشرات والدلائل، حيث سيؤشر التهديد الأميركي للدول التي ستصوت لمصلحة القرار إلى وجود إحساس بدا ضاغطا مؤخراً ويشي بتراخي القبضة الأميركية على العالم، والأهم أن هذا التراخي لم يقف عند حدود معينة بل كأنه ماض في مساره ليراكم ترهلا فوق ترهل، أما قلة المستجيبين للنداء والتهديدات الأميركية فهي الأخرى تبدو مؤشرا على حال من التململ جراء سياسات لم تكن معتادة من ذي قبل، إذ لطالما كانت الولايات المتحدة في عصر توهجها 1940-1991 كثيراً ما تعتمد سياسات تقوم على تفهم ومراعاة خصوصية الآخرين الحلفاء منهم والخصوم أيضاً، وفي الكثير من المفاصل حرصت فيها واشنطن على إبداء المرونة المفرطة تجاه مواقف يمكن لها أن تتناقض مع مصالحها، كان ذلك السلوك السياسي يعبر بالتأكيد عن حال القوة والهيبة الأميركيين اللذين يفرضان على واشنطن عدم الظهور بمظهر «الطالب» وإنما بمظهر من تتحقق رغباته بالإيماء، وإن لم يكن فلا بأس ما دامت الجرافات الأميركية قادرة على تسوية الندبات التي يمكن لها أن تنجم عن جنوح البعض نحو اتخاذ مواقف لا تنسجم والمواقف الأميركية، أما أن يذهب دونالد ترامب إلى تهديد الدول التي ستصوت ضد إرادة بلاده فذاك بالتأكيد مؤشر بالغ الدلالة على حال الوهن الذي أصاب الخلايا الأميركية، وهو ينبئ عن ذات بدأت تشعر بضيق الفضاءات المفتوحة أمامها، والأخطر هو أن تلك الذات لم تعد تستطع التحلي بضبط النفس والانتظار ريثما تأتي فرصة أو ظروف «الثأر» ومعاقبة الآخرين، وهذي الأخيرة يمكن لها ألا تأتي عما قريب وقد يتطلب انتظارها سنوات أو عقود في بعض الحالات.
ضيق الفضاءات وغياب الصبر صاحب الباع الكبير في تحقيق النجاح مؤشران على أن ثمة خللاً كبيراً باتت تعاني منه التجربة الأميركية التي أنتجت القوة الأعظم في تاريخ البشرية.