المصطلحات ساحة للمواجهة ومحور من محاور الاستهداف، وأداة للتأثير في الرأي العام … اختراق مجتمعاتنا بدأ بمصطلحات وأخطرها المصطلح السياسي..
| طرطوس- سناء أسعد
في كل لحظة يشتغل بها الفكر ويعمل بها العقل لإنتاج فكرة جديدة فنحن على موعد ولادة لمصطلح جديد يضاف إلى قاموس مفرداتنا. لكن وفي كثير من الأحيان نعجز عن إحداث توازن حقيقي بين ما يجول في أذهاننا من أفكار وما نطلقه من مصطلحات تعبيراً عنها، وخاصة عندما ننقاد بشكل أعمى وبأسلوب ببغائي للتعبير عنها مما يثار ويطرح أمامنا من مصطلحات دون أدنى تفكير ودون البحث عن صحة مقصدها وأهدافها وغاياتها. والسبب هو أن الحرب علينا لم تشل مفاصل البلد وحركته ولم تخطف أرواح البشر وحسب بل إنها أصابت وعي وإدراك البعض بالشلل والركود وخطفت عقولهم التي هجروها وتغربوا عنها ليسكنوا قصور التيه والجهل والكسل، يطالبون ويسعون إلى كل شيء إلا المعرفة على الرغم من أننا نعيش اليوم في زمن تحكمه المتغيرات وتتحرك أحداثه على وقع التطورات وبسرعة هائلة. زمن كثرت فيه التفاصيل التي لا بد من الوقوف عندها مطولاً وتعددت فيه المفاهيم والأوصاف. خطوط حمراء تم تجاوزها وقضايا كبيرة فتحت أبوابها لتصبح في متناول الجميع ليكثر بذلك عدد المنفعلين الحمقى، والحكام غير الحكيمين وعدد المنظرين المتطفلين والمحللين المسيسين، وصار كل يطلق أحكامه حسب أهوائه وتوجهاته والتوجيهات التي يتلقاها.
وبما أن العدو لم يوفر وسيلة إلا وحاربنا بها ولأن أهم أهدافه اختراق عقولنا وضرب معتقداتنا ومختلف انتماءاتنا وقتل حسنا القومي والعروبي والنضالي كانت حرب المصطلحات جزءاً من الحرب على سورية وابتدعوا لأجلها جملة من المصطلحات الملغومة والخطرة وبدأ الضخ الإعلامي والترويج لها بشكل مدروس ومخطط له لترقد وتترسخ في أذهاننا ووجداننا.
وكما قال السيد الرئيس بشار الأسد: «إن اختراق مجتمعاتنا بدأ بمصطلحات».
وعندما يكون هناك خرق فحتماً هناك ضعف ساهم في هذا الخرق. والسؤال هنا: ما أبرز المصطلحات المتداولة وغير المقبولة؟ ومن الجهات المعنية بتفنيدها وتبيان مخاطرها؟ وما الآلية التي يجب اعتمادها لمعالجة مكامن الضعف التي ساهمت في هذا الخرق؟ وما الإجراءات التحصينية لحماية أجيالنا من الوقوع بفخ التداول المغلوط لما يطرح أمامه من مصطلحات؟
الإغراء الإعلامي والارتزاق المالي
المحامي رمضان عطية يقول: «للمصطلح أكثر من تعريف أو توضيح وتعدده يتصل بالموضوع أو بالمكان أو بالتاريخ الذي يشار إليه في المصطلح الذي روّج له وأصبح وكأنه حقيقة ثابتة على حين هو بخلاف ذلك في الكثير من الحالات. ومع ذلك فنحن أمام مصطلح لغوي أو قانوني أو مكاني أو علمي أو سياسي.. إلخ».
ولعل أخطرها من حيث القصد أو الاستعمال هو المصطلح السياسي الذي جرى تداوله أو الذي يستحدث من مطلقي هذا المصطلح ولغايات خاصة بهم (مطلقي المصطلح).
فمصطلح المسألة الشرقية الذي جرى إطلاقه وتداوله والبناء عليه من مجموعة من الدول الغربية لتغطية وتأمين مصالحها ما أن حقق غايته في انهيار وتقسيم المناطق التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية إلى مجموعة من الدول والإمارات التي أخضعت لنفوذ الدول الاستعمارية الغربية حتى انتهى تداول مصطلح المسألة الشرقية ليبرز على نتائجه مصطلحات: الانتداب، والوصاية، والشرق الأدنى والشرق الأوسط، والشرق الأقصى، ومصطلحات: الوطن القومي اليهودي «وحيث صدر وعد بلفور بخصوصه»، وثابت أن المصطلح الذي يعني (إيجابياً) التفاهم والاتفاق والسلام لا يدخل في عداد ما سبق من مصطلحات قديمة (تاريخياً) ومتجددة في الاستعمال ولغايات ومصالح الدول الاستعمارية وقد أسس لأحلاف ومعاهدات قامت بين هذه الدول وأدت إلى حروب ونتائج كارثية بينها (كالحربين العالمية الأولى والثانية) وما زالت آثارها وغاياتها قائمة وهي بين الفينة والأخرى تكاد تصل إلى حد الانفجار المناطقي والعالمي فإن مخاطرها ونتائجها الآنية والمستمرة تتعارض مع مصالح الشعوب التي تسعى إلى تقرير مصيرها والحصول على استقلالها وتمنع الاستقرار والتنمية فيها إن لم يكن من نتائجها الكارثية تقسيم المقسم والتناحر المجتمعي، الإثني، القومي والديني ولعل أكثر الأمثلة وضوحاً ما هو قائم من صراع في ظل مصطلح «الربيع العربي» وقد أدى إلى كوارث سياسية واجتماعية وفكرية واقتصادية تدور رحاها في أكثر من قطر عربي وخاصة ما يدور على الأرض السورية من حرب كونية هدفت منذ البداية إلى تحطيم الكيان (دولة ومؤسسات) وإلى تدمير كل شيء الإنسان والشجر والحجر وبغرض نهائي يسعى له المعتدون والمخططون والداعمون إلى إنهاء الدور القومي لسورية وتمكين الكيان الصهيوني من بلوغ غاياته «البقاء، والاحتلال، والتوسع» ولقد ابتدعت الدول «المتحالفة» معاً لتحقيق هذه الأغراض في سورية جملة من المصطلحات الوقتية والدائمة بغية إطالة أمد الحرب وتفعيل الكوارث اتساعاً ونتائج.
ومن ذلك تقسيم الإرهابيين إلى متطرفين ومعتدلين والاختباء وراء مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان… إلخ. وقد حولتها إلى مصطلحات فارغة المضمون وتجافي الحقائق وبالمقابل فإن مصطلحات الأزمة السورية «على حين هي حرب كونية مدمرة وشاملة على سورية أرضاً وشعباً ومستقبلاً» لا يزال يجري تداولها على أنها أزمة من القيادات والأوساط الإعلامية السورية. وبغرض مواجهة مصطلح الإرهابيين والتكفيريين فكراً وممارسة فإن مصطلحات الدين المعتدل والدين السمح يجري تداولها إعلامياً وتنظيمياً على حين لا يوجد سوى دين واحد مرجعه أوامر إلهية (في دفتي القرآن والإنجيل) تدعو إلى التوحيد الإنساني قبل الإلهي وإلى الاعتدال والوسطية والتسامح… إلخ، وشتان ما بين ما يتوجه إليه الدين ويدعو إليه ومصطلحات الدين المعتدل والدين السمح.
وغني عن القول إن المصطلح الذي أشرنا إلى بعض مسمياته بقدر ما يكمن الخطر في عدم تفهمه وعدم الاستعداد للتصدي له فإن ابتداع مصطلحات لا تدخل فعلياً وحقيقة في هذا الاستعداد والتصدي والتفهم يتلاقى في المخاطر والنتائج ذاتها التي تريدها الجهات المعنية في تصدير وتنفيذ المصطلحات المتداولة وغير المقبولة قديمها وحديثها.
وعن مكامن الضعف التي ساهمت في هذا الخرق يقول عطية: حينما يكون الضعف سمة بارزة فردياً وجماعياً وأوساطاً ومواقع رسمية وسياسية ودينية والمعنية في إعداد الأجيال وقيادة المجتمع وبناء الدولة فإن الذي تفعله المصطلحات غير المقبولة والمتداولة ليس خرقاً للأجيال فحسب بل هو تسليم قيادة هذه الأجيال للجهات التي تقف وراء ابتداع وإعداد وتنفيذ هذه المخططات وإذاً القاعدة تقول: إن الأجيال جسر وصل للماضي بالحاضر وهي التي تصنع المستقبل فإنه (أيضاً) لا غرابة في ما رأيناه من اصطفاف قسم كبير من أجيال الأمة والوطن في عداد الإرهابيين والتكفيريين الذين هم شباب وأجيال لا يجوز أن يكون مكانهم حيث وقفوا وحيث أخذوا بالتربية الخطأ وبالإغراء الإعلامي والارتزاق المالي وحيث قسم كبير من حملة الشهادات العلمية المنوعة والشباب العامل قد انخرطوا في الجريمة والخيانة والارتهان للفتاوى التكفيرية وقد حملوا السلاح على تاريخهم ووطنهم وعلى رفاقهم وأبناء جلدتهم في العروبة بانقياد أعمى لأجندة خارجية إقليمية ودولية.
من يأخذ بما هو قائم من مؤسسات ومنظمات سياسية وشعبية وباعتبارها معنية بقيادة المجتمع فكرياً وسياسياً واقتصادياً يتساءل عن حقيقة الضعف الذي تملكها حتى خرجت هذه الجماعات من الأجيال القائمة عن عيونها وعن رقابتها وعن الالتزام بها ولكن الجواب عن هذا التساؤل لا حاجة إلى حصره في جانب أو في مستوى معين أنه (أي الجواب) يمكن أن نضع له عنواناً واسعاً وشاملاً وهو الفراغ وإن هذا الفراغ قد ملأه (نشطاء – عملاء – خونة-….. إلخ) فكان الحال التي آلت إليها الأمور والنتائج المتحصلة: أبناء من الوطن وقعوا ضحايا التسيير الإجرامي بحق شعبهم ووطنهم ومنه فإن الآلية المطلوبة هي مراجعة شاملة، حوار صادق وشجاع ذاتي وموضوعي ومخطط يطول الجميع من المعنيين بذلك وفي مقدمتها الأوساط والمؤسسات المعنية بقيادة شرائح وفعاليات المجتمع وأحد الأهداف الفاعلة المتوخاة أجيال واعية ومنيعة من الاختراق والضياع.
ويتابع: يتقدم الإجراءات التحصينية لحماية أجيالنا من الوقوع في فخ التداول المغلوط لما يطرح أمامه من مصطلحات أن نكون مع هذه الأجيال ولربما يقال الأجيال أبناؤنا فكيف لسنا معهم؟ عند هذه المسألة والواجب الحساس والمبدئي نقول إذا كنت مع الأجيال بكونك أباً وأماً ومعلماً وأستاذ جامعة وقائداً سياسياً وقائداً عسكرياً فإنك في مهمة مصيرية وتاريخية حيال الأجيال أفراداً وجماعات تتمثل بتربية هذه الأجيال فرادى وجماعات فكل من الأب والأم والأستاذ الجامعي والقائد العسكري والسياسي عليه أن يربي من تحت ولايته ووصايته والتربية المقصودة هي التربية الوطنية والقومية والإنسانية التي لا مكان لها في عقول الأجيال إن لم تبذر وتزرع في هذه العقول لتتطور عملاً وتفهماً ونتائج علمية ووطنية وقومية جامعة ومستمرة.
إن الوعي لا يفترض وإن المنهج التربوي والتعليمي يبدأ مع الفرد في بيته ويستمر عبر المؤسسات التربوية والتثقيفية ومن خلال دور الإيمان والعبادة مروراً بالمنظمات السياسية والشعبية فكل هذه الجهات والمؤسسات والأوساط هي المسؤولة عن الإحاطة بما يجب عليها من وعي واستيعاب وتأهيل في استقبال الأجيال، وحيث هذه الدوائر والأوساط كالسوار في المعصم إحاطة بكل فرد أو جماعة من هذه الأجيال المتواترة في ولادتها ونشأتها وإعدادها ومن ثم قيادتها للناس والمؤسسات والدوائر الرسمية والسياسية والشعبية والدينية.
من هنا يتبين أن تحصين الأجيال من الوقوع بفخ التداول المغلوط لما يطرح أمامه من مصطلحات لا يكون قائماً وفاعلاً إن لم يكن الإعداد والتربية والتثقيف قد بدأ وفي جميع ومن خلال هذه الأوساط.. وحيث المربي الوطني القومي فكراً وثقافة واطلاعاً واسعاً تاريخياً وسياسياً على ابتداع المصطلحات بأنواعها وبغاياتها والذين يخططون لنشرها وتنفيذها وعلى حساب شعبنا وأمتنا.
ويختم عطية قائلاً: إن الأجيال أمانة في عنق هذه الأوساط ورجالاتها ومناهجها تأتي في مقدمة مهامها وقاية وحماية وإبعاد الأجيال عن الوقوع في حبائل وخفايا المصطلحات المعادية التي تبتدعها إعلامياً واستخباراتياً وبالترغيب والترهيب القوى والأوساط المعادية لهذه الأجيال ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
في هذا الإطار لا ننسى أن فاقد الشيء لا يعطيه وأن من لا يؤمن بهذا النهج الوقائي والمنقذ من المربين المعنيين بهذه المهمة بهذه الرسالة الدائمة فسيكون ليس مقصراً وليس متهرباً من هذه المسؤولية بل هو مسهل للوقوع في براثن ومخاطر المصطلحات المغلوطة والمعادية ليس في مجال الأجيال ودوائرها بل في مصير الشعب برمته.
أداة للتأثير في الرأي العام
الأديب غسّان كامل ونوس يقول: «يتجاوز مفهوم المصطلح المعنى المباشر، الذي تحيل إليه الكلمة، أو الكلمات، التي يتشكّل منها، ويستدعي أفكاراً ومقولات ومواقف، في زمن استعماله، أو أزمنة لاحقة، تقصر أو تطول. وقد يضيف إليه استعمالٌ جديد، في أوانٍ مختلف، معانيَ أخرى، من دون أن يكون المقصودُ منه محدّداً تماماً بالضرورة، بل قد يكون لبعضٍ مصلحةٌ في عدم تحديده، لاستعماله حسب الطلب والغاية. وفي الغالب، يكون هؤلاء من أصحاب النفوذ بأشكاله وإمكانيّاته، ومساحة تأثيره، وتكون معاييرهم مزدوجة، ومضلّلة، فقد تكون المصطلحات محوراً من محاور الاستهداف، وساحة للمواجهة، التي قد تبقى باردة، تمهيداً وتحضيراً، حتّى تسخّن في وقت معلوم، وفي جهة منظورة، وللأسف، فإنّنا سرعان ما ننفعل، ونتسابق إلى ممارسة المطلوب من إطلاق المصطلح، وتعميمه، وتسويقه، منساقين خلف الدعاية والإعلام والإثارة، كما تكون لنا مصطلحاتنا، وتعابيرنا، التي يدخلون إليها، فيفرّغونها من معناها الإيجابيّ أو المألوف، وتُشحن بما هو مخالف أو مناقض».
وتكثر المصطلحات في الأوقات الصعبة، لأنّها أداة مهمّة للتأثير في الرأي العام، ولأنّ الناس منشغلون ومنفعلون بما يجري وما يُشاع، ويمكن أن يتقبّلوا ما يُطرح، بلا كثير تفكير، أو تحليل، أو البحث عمّا أو عمّن وراء ما يبثّ بكثافة وإلحاح.
إنّ المصطلح: «إسقاط النظام»، مثلاً، الذي اجتاح الساحات والمنابر، مع بداية الحرب على سوريّة، على أن «الشعب» هو من يريد ذلك، يعادل تماماً المصطلح: الفوضى «الخلّاقة»، الذي خرج من أميركا قبل سنوات، وليس المقصود بـ«النظام» هنا شخصاً أو مؤسسة، بل الأسس والمبادئ والأخلاق والقوانين… التي يصبح من يُسقِطُها من حسابه بهيميّاً، يمكن أن يقوم بأي فعل، وأن يساق إلى أن يمارس ما يراد منه، قتلاً أو تخريباً، بلا أدنى تفكير، أو شعور بالذنب أو الخسران.
كما أن لمصطلح «الاعتدال»، استعمالات مضلّلة، وغايات قاتمة، للحدّ من قوّة الإيمان بالوطنيّة والمقاومة ضدّ أي غزو، أو تدخّل، ولإضعاف الحماسة والشعور والاستعداد للقيام بما يلزم، لحماية للبلد، وتطوير الأفكار وتعميقها، ولقبول بعض الخارجين على الوطن، المسيئين له حتّى في حمل السلاح، والمدعومين من القوى الخارجيّة، التي خطّطت ونفّذت، وتنفّذ ما ينسجم مع سياساتها العدوانيّة للشعوب والدول، التي لا تنصاع إلى مآربها.
ولا يقتصر الأمر على ما يردّده الآخرون في حقنا، بل إنّنا نقول ما يبالغ في التوصيف، إلى درجة التسبّب بعكس ما نريد، ويترك آثاراً سلبيّة بلا واقعيّته، ولا منطقيّته؛ فما نتعرّض له ليست «حرباً كونيّة»، يقوم بها سكّان المجرّات كلّها؛ لأن أكثر من نصف سكّان الأرض في جانبنا، ولا يعني وجود مسلّحين غازين من هذه الدولة أو تلك، أن الدولة كلّها، مع مواطنيها ضدّنا! إضافة إلى أن البيئة التي يظهر فيها الإرهابيّون ويحاولون الاستيطان، لا يمكن وصفها بـ«الحاضنة»، حتّى لو لاقوا بعض الترحيب أو المساعدة، لأن الحضن يوحي بالدفء والحنان والأمومة، وهذا لا يمكن أن يكون مع عصابات إجرامية، فلا يمكن أن تحتضن شوكاً أو نواتئ أو متفجّرات جاهزة للفتك بالمواطنين أبناء البيئة ذاتها.
ويجري استعمال كلمة الثقافة في غير مدلولاتها الإيجابيّة؛ مادّيّاً: «التشذيب والتقويم»، ومعنويّاً: «الحذقُ والفطنةُ والإبداع»؛ فلا يصحّ أن نقول: «ثقافة الهزيمة»، أو «ثقافة الاستسلام»، أو «ثقافة التطبيع مع العدوّ»، أو «ثقافة الفساد». ويمكن أن نقول: «ثقافة المقاومة»، «ثقافة المواطنة»، «ثقافة الحوار».
ولا يجوز التداول بالـ«أقلّيّة» والـ«الأكثرية»، فيما يخصّ شريحة محدّدة من المواطنين في الوطن؛ فالجميع مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات؛ بصرف النظر عن انتماءاتهم الأخرى المنسوبة إليهم، خارج الوطن أو داخله!
تلك أمثلة معدودة لكثير ممّا هو مُثار ومُشاع، ولا سيّما في أجهزة الإعلام العديدة، التي تعيد القول مرّات مرّات، وفي برامج ولقاءات وتسجيلات؛ لترسيخه في الذهن، ولجعله عاديّاً مقبولاً لدى المتلقّين.
ويرى ونوس: إن نسبة التأثّر بالمصطلح، تختلف من شخص إلى آخر، حسب المناعة المكتسبة؛ هذه المناعة التي تؤمّنها الثقافة المتشبَّعة المؤسِّسة والبانية للفرد والمجتمع؛ فلا يؤخذ أي كلام مغرض، أو محرّض، أو تيئيسيّ، وفق ما يريده مطلقوه، بلا تأمّل وتعليل.
ويضيف: إنّ ضعف الحصانة الذاتيّة والمجتمعيّة والمؤسّساتيّة، يأتي من الأسلوب التلقيني التقليديّ في التربية والتعليم والتأهيل والتدريب؛ والاعتماد على أفكار الطاعة؛ بدلاً من القناعة، والتسليم بدلاً من التساؤل والمناقشة؛ والفكر القابل بما يأمر أو يوجّه به «الكبير» القريب والبعيد؛ بل المنتظِر لِما يقوله؛ كائناً من كان، ومهما شحّ مستواه، بلا تفكير نقديّ لأيّ أقوال أو أفكار، أو مستجدّات؛ والسكوت على الجهل، والمديح غير المستحقّ؛ وهذا في معظمه من نتاج الخطاب الدينيّ التقديسيّ الفوقيّ، والأساليب التي تعتمد على الحفظ الببّغائيّ؛ للحصول على العلامة، والحذر أو الخوف من التعبير عن الرأي الشخصيّ، أو الموقف الذاتيّ، الذي قد يختلف عن السائد والراكد، ويُفترض أن يجعله يتحرّك ليتجدّد، وليتخلّص ممّا صار بالياً، من صيغ ووسائل وطرائق ومقولات.
ويختم قائلاً: إن للأسرة، وللمؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة والتربويّة والاجتماعيّة والحزبيّة، أدواراً مهمّة، في تغيير كلّ هذا، ومن ثمّ في عدم قبول المصطلحات أو ترويجها باستعمالاتها السلبيّة، ولا بدّ من شرحها، وبيان أخطائها، وأخطارها وتصويبها باستمرار، والوصول إلى الناس؛ كلّ الناس؛ حيث يقيمون، ويعملون، بأيّ وسيلة، وهي مهمّة لا تتوقّف على الكوارث والأزمات، التي تكون فيها ملحّة؛ بل إنها عمل إستراتيجي متّصل في جميع الظروف والأوقات.
إعادة التثقيف بالأدبيات الوطنية
الباحث والكاتب يوسف مصطفى يقول: أبرز المصطلحات المتداولة في الخطاب الإعلامي قد بدأ خلال الحملة الكونية على سورية، وعلى جميع مكونها، كانت مصطلحات مدروسة، ومفبركة عبر مراكز الأبحاث المتخصصة، والمعادية. على قاعدة أنها مصطلحات مثيرة وجاذبة، وتحقق غرضها كقولهم عن المنشقين من العسكريين الذين خانوا أمانة المسؤولية (الجيش الحر) وكأن الجيش العربي السوري بأغلبيته، والتزامه شرف المسؤولية والدفاع عن الوطن، ليس حرا، وأن من تمرد وانشق وخان الأمانة هو الحر.
وهناك مصطلح (النظام السوري) وليس الدولة العربية السورية بمكونها الدستوري، والقانوني، والشرعي، وسلطتها الشرعية على أراضيها. ومصطلح نظام يعني لهم نوعاً من الحكم مختلفاً عن مفهوم الدولة، وكلهم يقول عن إسرائيل «دولة إسرائيل» وليس (الكيان الإسرائيلي) بما في ذلك قسم كبير من النظام العربي ودعاة التطبيع مع إسرائيل، ومصطلح (المعارضة المعتدلة) لتمييز قسم من حملة السلاح على الشعب، والدولة أنهم معتدلون وهذا مخالف لأبسط معاني المعارضة وهو: السلمية، والحوارية، والرأي والرأي الآخر، وغيرها من مفردات العمل الديمقراطي كالبرامج السياسية والمطلبية وغيرها.
إطلاق مصطلح (الدولة الإسلامية) على داعش والنصرة وسواها وجميعها عصابات نهب وسطو وقتل للنساء والأولاد لا قانون، ولا دستور، لا حريات، سبي، خطف، تدمير المدن والأرياف والمنشآت العامة السلمية وغيرها. فما هذه الدولة الإسلامية؟ وكيف تكون؟ إنها مصطلحات تضليلية تغري أصحابها وينفذ أصحابها رغبات التدخل الخارجي وأغراضها.
إلى مصطلح (المناطق المحررة) أي المستولى عليها من المسلحين وما يعاني شعبها في غياب السلطة الرسمية.
هذا العديد من المصطلحات الوافدة والمشاعة تقتضي عملاً فكرياً، وثقافياً تشارك فيه كل الجهات المعنية بالمسألة: الفكرية، والثقافية، والمجتمعية، والمسألة الثقافية غايتها مجتمعية، تنويرية، وتحديثية، وغير ذلك.
إعادة «التثقيف» بالأدبيات الوطنية: الوطن ومعانيه، المواطنة ودلالاتها، بين الوطني والمواطنة، والمسؤولية وجوانبها، وثقافتها. عناوين المحبة، التشاركية، عناوين الهوية، والانتماء، والأرض، ووحدة المكون، والمصلحة الوطنية العليا وأين تكون المعارضة ومعانيها وثقافتها وأدبياتها؟
ويضيف مصطفى: المهم العودة للاشتغال على كل ما هو أصيل في فكرنا وأدبنا: ابن رشد، المعتزلة، العقلانية، العلمانية، الإسلامية الروحية النقية ومحبتها ونهوضها وثقافتها، والأهم ثقافة الآخر المعادي وكيف نرد خارج لغة الحماسة والخطابة؟
ويتابع: كما يجب الاشتغال على جيل الشباب في المدارس والجامعات عبر مراكز ثقافية تقام في هذه الجامعات وهي حاضن كبير لجيل الشباب وإقامة منصات حوارية في الوطن والوطنية والهوية والانتماء والواجبات والحقوق والأصالة في الأدب من المتنبي إلى طه حسين، ومخاطبتهم بالعقلانيات، بالمقنعات، والابتعاد عن لغة الشعارات التي لم تعد تجدي نفعاً معهم.
هذا كله يحتاج إلى مثقفين ومفكرين وريادات ثقافية وفكرية ويحتاج أيضاً إلى تطوير لغة الأحزاب والتيارات في الخطاب السياسي وأن تقدم لغة جديدة ووعي جديد خارج دائرة الروتين والمألوف ووصول هذه الثقافة إلى الأرياف والأحياء وجميع المناطق التي تم اختطافها باتجاه العنف والعصابات، والتكفير.
ويختم قائلاً: تلعب وزارة التربية والأوقاف والثقافة واتحاد الكتاب العرب وكل المنشغلين بالشأن الثقافي دوراً في إعادة إنتاج الثقافة الجديدة والوعي الجديد، هذا بالعام أما البرامج التطبيقية في المفردات وجداول الأعمال للمشروع الثقافي الجديد في رسم كل الجهات فالحديث يطول.
المعلم يستطيع أن يبني أجيالاً محصنة
الباحث باسل علي الخطيب يقول: هناك الكثير من المصطلحات المغلوطة التي صار تداولها من الأمور البديهية والعادية، على سبيل المثال مصطلحات الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف، كلاهما خاطئ، يوجد الإسلام والإسلام فقط وهي كلمة تدل بمعناها على الاعتدال والوسطية، فلا يحتاج المعرف إلى تعريف، فلا يجوز أن نصف الاعتدال بأنه معتدل، ومصطلحات التعايش أو التآخي أو التآلف التي تستعمل للدلالة على العلاقة التي تربط مكونات الشعب السوري، هذه تعبيرات مسمومة تدل في معناها الحقيقي على أن ذاك المكون مع هذا المكون قد اضطر إلى إيجاد صيغة للعيش جنباً إلى جنب وليس لأن ذلك هو حقيقة طبيعة العلاقة.
والأمثلة كثيرة، القضية لا تتوقف عند المصطلحات فحسب إنما تتعداها إلى تعبيرات نستعملها على شكل أمثال نرددها وكأنها زبدة الحكمة وترسخت في وعينا الجمعي وأضحت ثقافة لنا بل طريقة حياة، على سبيل المثال «الأرض الواطئة تشرب ماءها وماء الأراضي التي حولها» ماذا يعلمنا هذا المثال؟ ألا يعلمنا التذلل والخضوع للحصول على المراد؟
والمثل الثاني «اليد التي لا تقدر على هزيمتها، قبّلها وادع لها بالكسر؟ ألا يمثل هذا قمة النفاق؟ يقول المثل كذلك، من يتزوج أمي أقول له عمي، يمثل هذا المثل قمة الانتهازية وقعر الانحطاط الأخلاقي، والأمثلة كثيرة وكثيرة.
نستعمل تعبير القضية الفلسطينية، هذا تعبير خاطئ ترسخ في الوعي أن الكيان الصهيوني هو مشكلة الفلسطينيين وحدهم، الصراع في المنطقة أكبر من مجرد قيام دولة فلسطينية أو تحرير أرض هنا أو تلال هناك، الصراع في المنطقة على حقيقته هو صراع بين مشروعين، الأول هو المشروع الذي تمثله الجمهورية العربية السورية والثاني هو المشروع الصهيوني، هذان المشروعان لا يستطيعان أن يعيشا معاً أحدهما سيفني الآخر، هذا هو جوهر الصراع مع ذاك الكيان، إنه صراع وجود بكل ما في الكلمة من معنى، دعينا نضيق الدائرة، نستعمل تعبير «مهرجان تكريم الشهداء وأسرهم» هذا تعبير ليس خاطئاً فحسب إنما يمثل خطيئة كبرى، المرتبة العابرة لا تكرم الرتبة الدائمة، يجب أن يستبدل تعبير «مهرجان التكرم بالشهداء وأسرهم» به.
ويضيف: كل تلك المصطلحات المغلوطة التي تستعمل لم تأت بشكل عفوي انما كانت قد أعدت بشكل حرفي في المخابر الإعلامية التابعة لمراكز دراسات معادية وتم حشوها في وعينا عبر وسائل إعلام تنطق العربية ومثقفين يدعون أنهم منا حتى تترسخ في وجداننا ثقافة بديهية نقيس على أساسها كل محيطنا، ولاحظي ذاك الخبث هم يصدرون لنا المصطلح الذي اخترعوه عبر أحد مثقفينا أو وسائل إعلامنا مقنعين العامة أننا نحن من اخترع ذاك المصطلح.
ويختم قائلاً: تعتبر المدرسة والجامعة والإعلام ميادين المواجهة الأساسية لحرب المصطلحات تلك، ولكن المقدرة صراحة على المواجهة ضعيفة بسبب محدودية الإمكانات التقنية في المواجهة، وعليه يجب أن نتكل على العامل البشري، والعامل البشري هنا هو المعلم، كل التنظريات لن تفيد، علينا أن نرتقي بالمعلم، أغلب مشكلاتنا يبدأ حلها وأحياناً ينتهي عند المعلم، يجب أن نرتقي بالمعلم، أن تكون رواتبهم هي الأعلى، أن تكون معدلات القبول في كليات التربية في الجامعات هي الأعلى على الإطلاق، أن يكونوا محصنين قانونياً، وكل الحلول الأخرى التي تطرح ما هي إلا حلول موضعية آنية ليست ذات ديمومية، وحده المعلم المثقف المنتمي المكتفي يستطيع أن يبني أجيالاً محصنة منتمية واعية وكل ماعدا ذلك مضيعة للوقت.
ختاماً
مواجهة حرب المصطلحات ليست بالسهلة أبداً لكنها ليست مستحيلة أو أشبه بمعجزة. فبقدر ما نعتقد أنها ثبتت وترسخت في الأذهان بقدر ما نحن قادرون على تغييرها بعقلية متطورة متجددة، بوعي جديد، بثقافة مشبعة بكل ما هو أصيل، بحوارات جريئة تغذي الفكر وتحصنه. والتوجه إلى جيل الشباب والتعاطي معه بأساليب جذابة ومؤثرة تحاكي واقعهم وطريقة تفكيرهم واهتماماتهم.
فلتكن مواجهة بحجم الحرب ولنبدع ولنبتكر فكراً وممارسة، ولنتأكد أن العلم والمعرفة والثقافة هي حاجة العقل التي لا حدود لإشباعها والتي لا يمكن التباهي بالوصول إلى درجة الاكتفاء منها مهما زودنا العقل بها بل كل ما تذوق طعمها صار الشوق للتزود بها أكبر..
وعندما تهان العقول يستباح الفكر وتغتال الهوية وتهدر كرامة النفوس.