الجدل وخراب الروح
| إسماعيل مروة
لابد أن يكون منطلقنا، ومنطلق أي إنسان أو آدمي من مفهوم الرفق، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يقوم أحدنا بإلباس الدين أو الشرائع المتعددة لبوساً ليس لها، فالتعاليم توجه لكنها لا تزرع في الإنسان شيئاً فوق طبعه وتربيته وظروفه الاجتماعية والاقتصادية، وغريب أن نجد من يلجأ دوماً إلى الشرع ليستدل فيه على حياة نعيشها بتفاصيل لم تكن موجودة أو مطروحة! والأكثر غرابة أن ينبري أحدهم للّي عنق النص من أجل الاستدلال على عظمة النص والشرع! فإذا كان النص بحاجة إلى تمحّل وليّ عنق، فإنه ليس نصاً حقيقياً، فالنص قانون ومبادئ، والتفاصيل متروكة لفطرة الإنسان.
أما عن الرفق فهو أمر خطير وقديم قدم الإنسان، فهابيل وقابيل أولاً، ومن ثم تتالى حوادث القتل وتستمر إلى يومنا هذا، وعند اشتداد الأزمات والحروب والصراعات الفكرية والمذهبية تتعالى همسات لا يمضي وقت حتى تصبح أطروحات… واليوم مع تنامي الثورة المعرفية الإلكترونية، وتحول كل واحد منا إلى منبر إعلامي خاص، يفعل ما يشاء، صرنا نجد ما يصعب احتواؤه، فأحدهم ينال من خالد بن الوليد ويريد أن ينزع عنه أي فضيلة، فيبدأ- من دون رفق- الحديث عن قضية مالك بن نويرة وزوجه، ويستشهد بقصيدة متمم بن نويرة، مع أن ما جرى كان ضمن حرب وصراع أيديولوجي ديني، ولو عدنا إلى الكتب التي تتعاطف مع شخص خالد بن الوليد فسنجد أن قضية مالك من القضايا التي تؤخذ عليه.. وإن صحت القراءات فإن ما فعله خالد مرفوض، لكن المرفوض أكثر أن يقوم بالحديث عنه إنسان جاهل وكان يردد ما قرأه في المواقع الإلكترونية فقط، بل يرسله رسائل إلى الهواتف، أو أن يتحدث إنسان لم يتورع عن زوج جاره أو قريبه، ولا يجد مانعاً في القتل بلا رأفة… وتطول الحكايات في صلب الناس على قوس كلمة جاهلة أو حاقدة أو سوى ذلك. إن مثل هذه الأحاديث يجب أن تنطلق من المعرفة العلمية الحقيقية، وأن تخضع لمحاكمة معرفية، ومثل ذلك ما نقرؤه عن قصص عن الحجاج بن يوسف وما قام به، والأخطر أن يتم نسب ذلك إلى العقيدة، ويتم تجاهل الموقف السياسي والدولة والحرب، وربما كان الحجاج من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ العرب والإسلام، فهذا يمجد، وذاك يشتم، وما بين جانبين ضاعت الحقائق، وبقي بين أيدي الناس مجموعة من العبارات والحكايا، وهي من الحقائق لكنها لا تعطي الصورة الكاملة، ولو عدنا إلى كتب التاريخ فسنجد حتى الميالين للحجاج يذكرون دوره في بناء الدولة، ويذكرون أخطاءه، وفي كثير من الروايات يذكر الرواة أن الحجاج بن يوسف أفاق من غيبوبته قبل الموت، ورأى شماتة من هم حوله فقال: «اللهم إن هؤلاء يزعمون أنك لن تغفر لي، اللهم إن ذنوبي صغيرة في جنب عفوك» ثم مات وسط دهشتهم… وحين كتب العلامة المحدث الذهبي كتابه «سير أعلام النبلاء» ذكر ترجمة للحجاج مختصرة بكلمات «ظلوم غشوم، نسبّه ولا نحبه، ونجلّ كتابنا عن ذكر اسمه…» ومع أن الذهبي هو من هو في التصنيف، ومن الثقات إلا أن هذه الترجمة تخرج عن إطار العلم، وكتبت كتب كثيرة من أهمها ما كتبه المؤرخ الدكتور الوزير السوري شاكر مصطفى «الحجاج ما له وما عليه» ولكن الدراسة العلمية ذهبت ولم نعد نعرف عنها شيئاً.
إن كثيرين ممن تحدثوا في الحجاج سلباً فعلوا الأسوأ، وسوغوا من منطلقات فكرية لمن يشابهونهم أفعالاً أكثر سوءاً، وأجهدوا أنفسهم في البحث عن مسوغات لهم.
إن أخطر ما في أي أمر فكري أن يلبس لبوساً عقيدياً لأنه يستثير وراءه ثقافة تدعى ثقافة القطيع، وأنا أراها ثقافة فطرية طبيعية لا يحمل وزرها البسطاء، بل يحملها من قام بإلباسها هذا الثوب… والأمر ليس محدوداً بين مذاهب وطوائف، بل هو بين الشرائع، فقد استطاع المؤلفون الفرنجة أن يدخلوا مصطلح الحروب الصليبية على حروبهم ضد العرب، وطرب كثير من العرب للمصطلح، وصار عنواناً للكتب والمحاضرات والمقالات، والأمر لا يعدو تحالفاً تم بين المؤسسة السياسية والدينية المتمثلة في الكنيسة البابوية للخلاص من أمر ما، وقد تم استغلال هذا التحالف أبشع استغلال للحصول على شرعية العامة، ولو عدنا إلى كتاب «الاعتبار» للأمير الشاعر أسامة بن منقذ فإننا لن نجد استعمالاً لمصطلح الحروب الصليبية، وهو الذي عاش تلك الحروب وقادها دفاعاً عن قلعة شيزر وبلاد الشام، بل كان يطلق عليها اسم حروب الفرنجة كما كانت حقيقة وكما عاشها، بل إنه يصنف بطولات المقاتلين الفرنجة، ويذكر قصصاً تفوق الخيال في نبل الفرسان والمقاتلين.
وحتى في العصر الحديث يسأل الشاعر حافظ إبراهيم «سلوا البابا… هل في الإنجيل…» فتحول الصراع من صراع سياسي وحضاري إلى صراع عقيدي يمكن أن نجد صداه في الدراسات الأدبية والسياسية المعاصرة.
واليوم نجد أقل تصرف ينسب للعقيدة والشريعة وتتم تبرئة الشخص وميوله ونوازعه المتضاربة، وقد استطاعت آلة الإعلام أن تغير في الدوافع والحقائق والغايات، فحولت الصراع من صراع علمي تقاني حضاري إلى صراع ديني ومذهبي ينتصر فيه القوي والتقاني..!
فما يسمونه «زلة» بوش عن الحروب الصليبية لم يكن زلة، بل كان مقصوداً، ومن يومها نسي العالم العربي والإسلامي حقيقة الصراع والهيمنة لتدور الأمور في صلب الدفاع عن الإسلام في وجه الصليبية! فلا الصليب كان موجوداً، ولا الهلال حقق شيئاً، وكل ما في الأمر أن القوى الضاربة استطاعت أن تصل إلى غاياتها، ونبحث نحن عن هوية تسوّغ القتل!
وعندما يتحدثون عن إيران ينسون أن إيران قوة ضاربة في المنطقة، وفي الوقت نفسه هي قومية ضاربة في عمق التاريخ، ولا يُنكر هذا الانتماء، فهي أمة فارسية تبحث عن مجدها، وإن كانت تنتمي إلى الإسلام عقيدة، فالإسلام عقيدة، والقومية هوية، وبدل أن نبحث عن مجد مقابل وأن ننهض نحاول تسويغ عجزنا بالحديث عن صراع مذهبي، وكما زلة بوش غير المقصودة، كذلك هناك لدى الإعلام التابع لكل مذهب من الجهلة الموجهين ما يكفي لبث الخزعبلات والإساءات لكل طرف، ليبقى كل واحد في إطار مرضه المذهبي، بينما تستكمل القوة عناصر وجودها إن المصلحة أعلى من أي شيء آخر!
لا تصدقوا كل المتشدقين بالعقيدة والرأي!
إن تماشى المذهب والعقيدة مع المصلحة تمسك المتنطعون بهما، وإن تعارض فإنهم لن يبالوا في الاستغناء عنه، وهم عندما يحققون هذه المصلحة، يعقدون الاتفاق مع السلطة السياسية على استنزاف الناس، والبقاء في مكانة الزعامة.
أما أنت يا من استثيرت عاطفتك، فاشبع من النص، وتجوّل في خزعبلات كل غايتها أن تبقيك في حرب، وأن ترغمك على الزحف نحو آراء المستفيدين!
اشبع من قال سيدنا، وقال شيخنا، وقال إمامنا، وقال أبونا…
وقاتل ولا تكن رفيقاً بشريكك.