إيران ليست فوق بركان
| عبد المنعم على عيسى
أفرزت إرهاصات المرحلة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة عام 1989 وانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة العالمية، تغيراً كبيراً في المفاهيم والرؤى الإستراتيجية الأميركية والغربية بشكل عام، وكانت الحصيلة المكثفة لذلك التغيير تتمثل في جعل «القوة الناعمة» خياراً استراتيجياً، في حين تراجعت «القوة الخشنة» لتصبح خياراً تكتيكياً، وأخيراً، وعلى الفور انبرى منظرو التغيير نحو إنتاج وتطوير النظريات اللازمة، فقال ستيف جاكسون عام 1995 بوجوب استلهام المقاومة السلمية للمهاتما غاندي التي استطاعت هزيمة الاحتلال البريطاني، ثم قال جين شارب بنظرية «الحروب بلا عنف» التي دعت إلى تمركز السلطات بيدي الشعب عبر عملية رسم فيها معالم الهدم ولم يرسم معالم البناء، ثم راحت الفكرة تستكمل بنيانها فتأسست المنظمات مثل منظمة الأمن والتعاون الأوربيين وبيت الحرية الأميركي، وصناديق التمويل مثل الصندوق الوطني للديمقراطية الذي يموله الملياردير اليهودي جورج شوروش الذي وصفه الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بأنه «ثروة قومية أميركية» في أعقاب مضارباته الساحقة في بورصات شرق آسيا التي ترنح بنتيجتها «النمور الآسيويون» في النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم.
أثمرت هذه التركيبة السابقة العديد من الثورات الملونة التي بدأت مع حركة «اوتبورا» عام 2000 التي استطاعت الإطاحة بالزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، ثم امتدت إلى جورجيا عبر الثورة الوردية عام 2003 فروسيا عام 2005 عبر الثورات الملونة، ثم فنزويلا عام 2007، وفي الغضون كان العمل جارياً حثيثاً على تلمس الأخطاء ووجوب إيجاد حلول لها، فخرجت فكرة «منظمات المجتمع المدني» أي بمعنى المنظمات غير الحكومية، ولم يأت عام 2010 حتى كان مركز «كانفاس» قد مد نفوذه إلى 50 بلداً في العالم، وفي هذا السياق كانت ثورة الأرز في لبنان عام 2005 وحركة 6 ابريل في مصر عام 2011 والثورة الخضراء في إيران عام 2009 وثورة الياسمين في تونس عام 2010 ولجان التنسيق المحلية في سورية عام 2011.
نحن هنا لا نسوق إلى أن كل ما جرى ويجري الآن إنما يعود في حركته إلى دينموات تستمد حركتها من الخارج، فللداخل أيضاً حطبه، إلا أنه من المعروف أن هناك في جميع الدول الحساسة في العالم مجموعات هي أشبه بالخلايا النائمة وهي ترتبط بشكل مباشر مع استخبارات خارجية تحركها لحظة تشاء، وهي تملك كفاءات عالية في مختلف الاختصاصات التي سبق تلقت دورات تدريبية فيها.
عندما هبت رياح «الربيع العربي» أواخر عام 2010 مهدت واشنطن طرقها لتتابع مسارها إلى إيران وفي هذا السياق كان رفع منظمة «مجاهدي خلق» عن لوائح الإرهاب الأميركية في أيار من عام 2012 أملاً في أن تستطيع «شرانق» الثورة الخضراء استقبالها والقيام بواجب الضيافة، إلا أن حسابات الحقل لم تأتِ على حسابات البيدر.
الآن بعد مضي أكثر من عشرة أيام على الحراك في إيران تبدو الأمور وكأنها فقدت جذوتها أو أن «الحشوة الدافعة» المزودة بها قد انتهى وقودها، لكن على الرغم من ذلك فما حدث ويحدث فيه العديد من الدلالات والمؤشرات البالغة الأهمية ولا بد لطهران من أن تأخذها بعين الاعتبار، فالمظاهرات بدأت في مشهد واصفهان، حيث المعاقل الأكبر للقومية الفارسية ولم تبدأ من مناطق القوميات الأخرى المكونة للبلاد، ووقودها كان في أغلبيته من شرائح الطبقة الوسطى التي باتت مهددة بخسارة مكاسبها التي حققتها في أعقاب الإصلاحات الاقتصادية التي أجراها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد إبان ترشحة ونجاحه في ولاية رئاسية ثانية عام 2009 ثم استمرت بعده لكنها توقفت إن لم تكن قد تراجعت في حمأة الصراع مع الخارج الذي احتدم عملياً منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة في واشنطن أي قبل عام من الآن، إلا أن المفاجئ في الأمر كان يتمثل في رفع المتظاهرين لشعارات تتعلق بالسياسات الخارجية للبلاد وتلك حالة غير مسبوقة، إذ لم يسبق لحركة أو ثورة أن رفعت شعارات خارجية محددة، صحيح أن شعارات «…أولاً» المستوحاة من شعار ترامب «أميركا أولاً» هي السائدة الآن، إلا أن ذلك يكون في الإطار العام، أما أن تحدد دول بعينها فتلك تطرح إشكالية أخرى لها دلالاتها، أما الحنين إلى عهد الشاه فهو لا يمكن أن يفهم على أنه حنين نحو هامش أوسع للحريات، فممارسات «السافاك» كانت ذات شهرة واسعة، لكنه يقرأ على أنه موت أو ضعف لحركات قومية وثقافية فارسية غيبتها الثورة الإسلامية منذ انتصارها في عام 1979، لكن في خلفية الصورة يبدو من بعيد أن ثمة خللاً واضحاً أو هو يمكن تلمسه يشير إلى أن القيادة الإيرانية حملت نفسها في الخارج، ربما بفعل الإحساس بفائض القوة وسط محيط يعاني كله، وهناً عجيباً، بما لا تحتمله «عضادات» الداخل.