من «مقصلة ترامب» إلى «عهدة القيصر»: عندما يقرر الأوروبيون الاستيقاظ
| فرنسا- فراس عزيز ديب
أعزاؤنا الصحفيون في أي مكانٍ من هذا العالم؛ لا يهُم بعدَ اليوم الجنسية التي تحملونها، ولا التوجه السياسي الذي تنتمونَ إليه، لأن تهمةَ الانتماء لحزبِ «فتح اللـه غولن» التركي المعارض لنظام رجب طيب أردوغان ستلاحقُكم وتطارِدكم ولو كنتُم في بروجٍ مشيدةٍ من الحريات الأساسية بما فيها حرية التعبير، باختصار تلك هي خلاصةَ المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان في ختام مباحثاتهما في باريس قبل أمس.
كان كافياً أن يكسر مراسل القناة الثانية الفرنسية في الإليزيه حاجزَ الصدق ويسأل أردوغان عن حقيقةِ الشاحنات التي أوقفها الأمن التركي وهي محملة بالأسلحة ومتجهة من الأراضي التركية إلى داعش في الأراضي السورية، ليخلعَ أردوغان قناعَ الدبلوماسية ويصف المراسل بأنه لا يتكلم كصحفي، بل كعضو في تنظيم «فتح اللـه غولن» المعارض، لكن أردوغان لم ينس أنه ذاك الديك الذي لا يُجيد الصياح إلا على مزبلته وإلا لشاهدنا حرسَ الرئاسة المرافق له يعتقل الصحفي الفرنسي بتهمة التورط في الانقلاب الأخير، تلك التهمة التي طالت حتى الآن أكثر من مئةِ ألف موظفٍ حكومي، إضافة إلى الآلاف من باقي المعارضين لنظامه، وإن كان الصحفي ردّ بدبلوماسية عندما أكد لأردوغان بأنه يتعاطى كصحفي، فإن الحادثة أثبتت أن أردوغان هو الذي لا يتعاطى كرئيسِ دولة، بل كزعيمِ ميليشيا تكفِّر كل من يُخالفها الرأي، وبكلِّ الأحوال فإن ابتسامة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وضحكة باقي الصحفيين بعد تخبط أردوغان في الجواب على هذا السؤال واعتماده مبدأ «أنك عندما لا تريد أن تتحدث عن مشاكلك تحدث عن مشاكل الآخرين» فهرب ليتحدث عن أميركا وإدخالها أطناناً من السلاح، لم تكن كافية فقط لإنصاف الصحفي، لكنها في الوقت ذاته اعتراف غير مباشر منه بأنه استبق الدعم الأميركي للانفصاليين الأكراد بدعم تنظيم داعش، فهل النهاية الكوميدية الساخرة للمؤتمر الصحفي هي انعكاسٌ لفشلِ الزيارة أساساً؟
دبلوماسياً بدت الزيارة أشبهَ بلقاء التائِهَين، فالجانب التركي الذي وصل في علاقاتهِ الأوروبية إلى حد الأبواب المغلقة، يعي تماماً أنه على رمالٍ متحركة في باقي الاتجاهات، من علاقته مع الولايات المتحدة، وصولاً إلى ما هو أهم أي علاقته مع أصدقائه الروس، تلك العلاقة التي تبدو اليوم على المحك بعد أن أثبتت المعطيات أن القرار السوري باستعادة إدلب لا رجعةَ عنه، ممهوراً بامتعاضٍ تركي مكبوت من حديث المسؤولين الروس عن «القضاء على النصرة»، وهو مصطلح يراه أردوغان حشراً له في زاوية تسحب منه كلَّ أوراقه في الملف السوري، بل لو راجعنا المواقف التركية من الملف السوري في الأعوام الثلاثة الأخيرة لتأكدنا أن النظام التركي لا يعود لسياسة تهديد أوروبا بطوفان اللاجئين إلا عندما يحدث هناك تقدماً ميداني للجيش العربي السوري وحلفائه على الأرض، وهذا ما فعله وزير الخارجية أحمد جاويش أوغلو قبل أيام من الزيارة عندما عاد في كلامه للحديث عن «مصيرِ (الرئيس بشار) الأسد»، ورفع راية الترهيب من اللاجئين بوجه الأوروبيين، بل إن أردوغان عاد وذكر الفرنسيين ذات أنفسهم بأنهم شركاء في حلف الناتو.
في الجانب الثاني فإن الأوروبيين بشكلٍ عام والفرنسيين بشكلٍ خاص لا يبدو حالهم أفضل من حاله، لكن كلا الطرفين لا يمكنهما أن يشكلا معاً رافعة سياسية لمواقفهما المتناقضة، فالأوروبي الذي تلقى الصفعات المتتالية من الأميركي والتركي ذات نفسه، فهم أن التعاطي مع أردوغان من مبدأ «البناء الإستراتيجي» يستحيل مع شخصٍ ينقلب في الشهر أكثر من مرة على مواقفه، فقرروا التعامل معه من مبدأ «انتظار القدر» والفكرة بسيطة ولعل كلمة السر فيها هي المسافة التي مشاها أردوغان حتى مدخل الإليزيه حيث صافح ماكرون، تلك الخطوات المتثاقلة بقدمين ترتعشان وهما يحملان جسداً فقد توازنه، كانت لافتة للنظر لرجل لم يبلغ بعد أرذل العمر، ليثبت هذا الأمر ربما صحةَ ما تمتلكه أجهزة الأمن الأوروبية من معلوماتٍ حول التدهور الحاصل في صحة أردوغان، هو ليس كلاماً للعودة إلى ما قبل عام 2012 عن إصابته بسرطان القولون، لكن الحديث الآن عن اضطرابات ناتجة عن مشكلات في الدم يحتاج فيها الرئيس إلى أوقاتٍ طويلة من الراحة، بالتأكيد هذا الكلام يبني عليه الأوروبيون أشياء كثيرة لأنهم يدركون أن الحالة الأردوغانية هي حالة فردية حققت ما حققته من نجاحات في الداخل التركي لأنها شدت عصب الأتراك في اتجاهين متطرفين يتقنونهما هما القومي والديني، أي إن الأوروبيين يدركون أن أردوغان ذاك الوحش الذي ساهموا في تعظيمه لينهشهم، يستحيل إسقاطه انتخابياً أو انقلابياً، لأن أغلبية الشعب التركي هم انعكاس لحالته المتطرفة لكن حكماً هذا الطموح الهتلري الذي يملكه سيزول بزواله لأن ما من شخصية قادرة على أن تخلفه، وبمعنى آخر: لم يترك قذارة لأحد يخلفه بها، أما قضية اللاجئين فإن الأوروبيين بشكل عام باتوا يتعاطون معها من مبدأ: من يشرب البحر فلن يتعب من ساقية، ومن ثم فإن الزيارة أساساً فشلت قبل أن تبدأ، ببساطة لأن هناك خطاً جديداً في السياسة الأوروبية بدأ يتبلور فهل يستطيع الفرنسيون إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
في الإطار العملي فإن كل من ألمانيا وفرنسا تسيطران عملياً على القرار الأوروبي ليس لامتلاكهما أكبر عدد من النواب لكونهما الدولتين الأكثر سكاناً فحسب، لكن لكونهما القوتين الاقتصاديتين الأقوى؛ بل إن هناك نوعاً من توزيع الأدوار بحيث تتولى ألمانيا الملفات الاقتصادية لكونها الاقتصاد الأقوى، وتتولى فرنسا الملفات السياسية لكونها تمتلك مقعداً دائماً في مجلس الأمن، لكن هذا التماهي بين الدولتين كان دائماً ما يعكره وجود بريطانيا كشريكٍ سياسي تابع بشكل كامل للولايات المتحدة دون أن يكون شريكاً اقتصادياً يتولى مسؤولياته بمهنية، لكون البريطانيين رفضوا أساساً الانضمام للعملة الأوروبية الموحدة، اليوم ومع الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي وحصول رغبة فرنسية ما في التغيير واستعادة الدور والمكانة المفقودين منذ الولاية الثانية للرئيس الأسبق جاك شيراك، ومع دخول ألمانيا عملياً مرحلة «الخلخلة السياسية» على المستوى الحكومي بسبب التمرد المتعاظم على إخفاق سياسات المستشارة إنجيلا ميركل، بدا الفرنسيون مع العهد الجديد وكأنهم من يحمل لواء التغيير هذا، مع التأكيد أن ملامح التغيير ستكون متدرجة، قد تكون بدأت مع كلام ماكرون عن «الصديق والعدو في سورية»، مروراً برفض الفرنسيين صراحةً طروحاتَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن تعديلِ أو إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وإنهائه لطموحات رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو عندما زار باريس عشيةَ إعلان ترامب القدس عاصمة للكيان المسخ لكسبِ الدعم الأوروبي وحثهم أن يحذوا حذو الأميركيين لكن نتنياهو عاد من باريس بخفي حنين، وصولاً للموقف الفرنسي الأخير في مجلس الأمن المتعلق بجلسة مناقشة الاحتجاجات في إيران.
ربما يدرك الفرنسيون قبل غيرهم أن الاتفاق النووي منحهم فرصةَ دخولِ سوق اقتصادية واعدة لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال التفريط بها، تحديداً أن الأميركي سيكون خارجها لكونه لا يزال «الشيطان الأكبر»، والحفاظ على مكاسب اقتصادية كهذه يتطلب تماهياً بالحد الأدنى في الحالة السياسية، فماذا ينتظرنا؟
مبدئياً يمكننا القول إن الفرنسيين وما تعنيه فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي بدؤوا فعلياً باستدارةٍ ما، ولا يمكننا واقعياً القول إن هذه الاستدارة لا تعنينا بل علينا التعاطي معها بواقعيةٍ سياسية لأنها ليست ناتجة فقط عن إدراك القيادة الجديدة لحجم الخسائر التي تسببتها السياسات المتعاقبة في كل المجالات، لكنها في الوقت ذاته ناتجة عن إعادة تشكيل التحالفات والمقاربة هنا بسيطة يكررها الكثير من الدبلوماسيين الأوروبيين بالقول إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو من يدفع بحلفائه إلى أحضان الروس، هذه المقاربة لا يمكن النظر إليها بعيداً عن الواقعية السياسية بل على العكس علينا أن نحاول استغلال لحظات ترهل الحلف المقابل لكي نتمكن من الاستثمار بما تحقق من انتصار، وبمعنى آخر: إن أي انتصار يعيدنا لما كنا عليه قبل هذه الفوضى التي ضربت العالم، هو انتصارٌ منقوص ما لم تنهر تحالفات وتكتلات، وعليه فإن كل ما علينا الآن انتظار ما يقوم به ترامب من حماقات لأنها عملياً المؤشر إلى انفضاض ما تبقى من حوله، هذا ونحن نتحدث عن التحالفات، لكن ماذا عن التابعين؟
الجواب هنا بسيط، انتظروا مؤتمر سوتشي للحوار بين السوريين والموقف الأوروبي منه، عندها فقط ستعلمون أننا أمام لحظة تاريخية علينا تلقفها بواقعية، لا أكثر.