عام بعد عام
| زياد حيدر
كنا نخرج إلى التراس المطل على الشارع الذي بدوره ينحدر نزولا نحو البحر، متوجهين بأنظارنا إلى الباخرة المضاءة بقوة، على بعد عدة كيلومترات من الشاطئ.
كانت جدتي تنظر لساعتها التي لاتكاد ترى في معصمها، وتطلب منا أن نعد للعشرة. ثوان وتنقطع الكهرباء، في كل المدينة، فقد بلغت الساعة الثانية عشرة، منتصف ليلة رأس السنة، وبدأت الباخرة في مدى البحر القريب، تطلق بوقها اثنتي عشرة مرة، معلنة دخولنا العام الجديد، مع استعراض خفيف للألعاب النارية في عرض البحر.
كانت جدتي تردد كما كل عام، «نيال اللي بينعاد عليه» وكان جارنا يقول «كم سرقة تحدث في المدينة في لحظات العتمة هذه؟» وكان جار ثان، يخرج مسدسه الكبير ويطلق عدة رصاصات إلى عتمة السماء.
وكما في كل عام من طفولتنا، كان أحدنا يصرخ في وجهه، «ليش هالتفنيص؟» على حين هو يبحث عن نظرات الإعجاب بمفرقعاته الشخصية وسلاحه الفردي.
ظللت حتى اليوم مدهوشا، من عادة قطع الكهرباء عن المدينة في تلك اللحظة، رغم أن رفاهية وجود التيار دوما لم تكن توفرت بعد، ودوما تذكرت اللحظة ذاتها التي طالما جمعتنا مع طاقم السفينة المتوقفة قرب المصب النفطي، والبحارة الذي كان حظهم أن يحتفلوا (معنا) بعيداً جداً عن أهلهم.
في السنوات التي تلت، تراجعت عادات إطلاق النار، فلفظها المجتمع وحاربتها الدولة. حتى حيازة السلاح باتت معقدة، ومربكة قانونيا.
لكن من فيه «سوسة لا تعطله نصيحة». استعاض «المفرقعون» بعد المنع والملاحقة بالألعاب النارية، التي كانت وما زالت بدورها ممنوعة، على الأقل بالكم الهائل التي كانت تصل فيه تهريبا إلى البلاد.
وفي السنوات القريبة التي سبقت الحرب، كانت ليلة رأس السنة، نهاراً اصطناعيا في قريتي، شهدنا فيها استعراضا فوضويا للألعاب النارية، من أسطح المنازل، ومنافسة حادة بين الأثرياء الجدد (ولهم قصة تروى لاحقا) في من يمتلك «الألعاب الأثقل»، وبينها صواريخ بحجم الساعد تثبت على قواعد، وتطلق من على الأسطح والشرفات، وتحدث دويا شبيهاً بدوي المعارك.
وهكذا تحولنا من الجار الذي يبحث عن بعض نظرات الاستقواء، لجيران يمتلكون ترسانات من ألعاب الاستعراض النارية، التي لم تعد مقتصرة على الاحتفال برأس السنة، بل تنوعت، من الاحتفاء بطهور ولد، للحصول على شهادة إعدادية (بعد احتضار طويل)، إلى أمور أخرى.
وبالطبع غاب صوت البواخر، وغابت رمزية انقطاع الكهرباء، وتضاءلت الرغبة في استقبال العام الجديد على الشرفات أو أسطح المنازل، فصار احتفال هذا اليوم يتضمن مخاطر، وصار الهواء مشبعا برائحة البارود، وهكذا عدنا لضرب الكؤوس داخل الغرف، قرب مدفأة المازوت، بعيداً عن النوافذ، التي تضيء، بين أصوات الانفجارات، على حين يتساءل ابن الجار الأول، كيف دخلت كل هذه «الأسلحة» إلى البلاد؟ وكيف وصلت للقرية؟ وكيف يحتفل بها الناس هكذا من دون خوف من مساءلة أو عقوبة؟
أما ابن الجار الثاني، فكان يمارس هواية أبيه، ولكن بالطريقة العصرية الجديدة.
كل هذا يأتي، ونحن عاماً بعد عام، نعتقد أننا مشينا خطوة إلى الأمام، على حين نحن فعليا نمشيها بالاتجاه الذي جئنا منه. نعتقد أننا نضجنا، وأن الحرب «جعكتنا» لكننا، من دون وعي أو بوعي كامل، نمد يدنا للأداة ذاتها التي قتلتنا، ونتساءل.. «معقول نرجع نعملها؟».