اجتمعت فيه شتى المواهب قلما التي اجتمعت بفنان آخر … فريد الأطرش.. الرائد في مدرسة التجديد والتطوير لحناً وأداءً من دون التخلي عن الأصول
| وائل العدس
قبل أيام قليلة، حلت الذكرى الثالثة والأربعون لرحيل الفنان السوري الكبير فريد الأطرش الذي اجتمعت فيه شتى المواهب التي قلما اجتمعت بفنان آخر، فكان بارعاً في التمثيل والغناء والعزف والتلحين، فاستحق عن جدارة لقب ملك العود وموسيقار الأزمان.
وقد صدق محمد عبد الوهاب حين قال عنه: «وفي كل هذه المجالس هناك الضحك والنكتة والسخرية والبهجة والسرور، ومع ذلك كنا نراه في أغانيه وخصوصاً الطويلة منها تغلب عليها سمة الحزن، وخصوصاً في طريقة إخراج صوته أو حتى في الجملة اللحنية، ولعل السبب في ذلك أنه كان يحتاج إلى الأسرة التي ينعم بها، وإلى الحيوية التي تنكرت له».
هو الرائد في مدرسة التجديد والتطوير لحناً وأداءً من دون التخلي عن الأصول، وخاصة أن إنجازه الحداثي الضخم كان نتاج كفاح طويل وسهر لصقل وإتقان مدرسة فنية خاصة به في إطار المدرسة الحداثية.
هو رائد الرومانسية الغنائية الحداثية، وتكفيه الأغاني التي قدمها مطلع مسيرته الفنية أواخر الثلاثينيات، تكفيه وحدها لتخليده كرائد إلى جانب إضافته الملحمية في الأوبريتات السينمائية.
اعتمد في عزفه على العود على التطريب والتقنية مع النقرة الواثقة وجمعت تقاسيمه بين التصميم الفكري والغريزة الفنية العامة المتوارثة لتقاليد الآلة.
قلده العازفون في جميع أنحاء العالم العربي وحصل على جائزة كبرى في عزف العود عام 1962.
ولا يمكن أن تمر ذكراه من دون وقفة تأمل في حياة هذا الموسيقار العبقري الذي استطاع أن يقف شامخاً على قمة الأغنية العربية حتى يومنا.
إبداع ومعاناة
ولد فريد الأطرش في محافظة السويداء عام 1915، وهو الشقيق الأكبر للمطربة آمال الأطرش التي اشتهرت فنياً فيما بعد باسم أسمهان.
عانى حرمان رؤية والده ومن اضطراره إلى التنقل والسفر منذ طفولته، من سورية إلى القاهرة مع والدته هرباً من الفرنسيين المعتزمين اعتقاله وعائلته انتقاماً لوطنية والده فهد الأطرش.
اضطرت والدتهم الأميرة علياء المنذر للهرب ليستقر بهم المقام في النهاية بغرفة صغيرة بحي الظاهر بالقاهرة، فالتحق بالقسم المجاني بإحدى المدارس الأولية، ولكنه سرعان ما ترك دراسته تحت ضغط الظروف المعيشية، ليضطر للعمل في أكثر من مهنة متواضعة لمساعدة أسرته الصغيرة.
اتخذت الأم من صوتها الشجي الحنون وهوايتها بعزف العود وسيلة للترفيه عن نفسها وأولادها، فتأثر فريد بصوتها وعزفها، وحفظ عنها كل ما كانت تشدو به، وعندما شعرت الأم بموهبة ولدها قررت إلحاقه بمعهد الموسيقا عن طريق جارهم الموسيقار اللبناني فريد غصن الذي كان له أثر كبير في بدايات فريد الأطرش.
تتلمذ في معهد الموسيقا على أيدي الموسيقار رياض السنباطي، وفي تلك الأثناء التحق بالعمل في العديد من الفرق الموسيقية المتواضعة، حتى التحق بفرقة بديعة مصابني التي كانت مدرسة فنية يتخرج فيها كبار النجوم.
تقدم لاختبارات الإذاعة المصرية، ولكنه أصيب بنزلة برد شديدة، حالت دون نجاحه، ورغم الحزن الشديد، لم ييئس وتقدم للاختبارات مرة أخرى عن طريق صديقه مدحت عاصم مستشار الإذاعة الذي أعاد اختباره أمام اللجنة نفسها فأدهشهم بأدائه وتعاقدت معه الإذاعة على العزف والغناء مرتين أسبوعياً.
كان فريد على موعد مع السعادة التي غابت عن حياته طويلاً، ليظهر صوته لأول مرة من خلال ميكروفون الإذاعة المصرية بأغنية «يا ريتني طير» التي لحنها الموسيقار يحيى اللبابيدي.
لفتت موهبته أسماع نجوم الغناء في مصر والوطن العربي، وزادت شهرته كثيراً، فقرر صناع السينما استثمار نجاحاته من خلال قيامه ببطولة أول أفلامه «انتصار الشباب» عام 1941 مع شقيقته أسمهان، وكان له حظ كبير من اسم الفيلم الذي كان بحق انتصاراً للشباب الذي عانى طويلاً حتى يظهر مواهبه للجمهور.
توالت نجاحاته السينمائية فقدم للفن السابع 31 فيلماً مع أشهر نجوم الفن، ومن أهم تلك الأفلام، «أحلام الشباب»، و«شهر العسل»، و«جمال ودلال»، و«ما قدرش»، و«لحن الخلود»، و«الخروج من الجنة»، و«حكاية العمر»، و«الحب الكبير»، ليختتم مشواره السينمائي عام 1975 بفيلم «نغم في حياتي» مع ميرفت أمين.
كان بألحانه حائط الصد والمدافع الأهم عن الموسيقا العربية، فقد أثرى المكتبة الموسيقية بأكثر من خمسمئة لحن وأغنية، تعاون خلالها مع كبار المطربين والمطربات، ومن أشهر الأغاني التي قدمها بصوته «زمان يا حب»، و«فوق غصنك يا لمونة»، و«زي النهارده»، و«بقى عايز تنساني»، و«أول همسة»، و«يا قلبي كفاية دق»، و«يا سلام على حبي وحبك»، و«يا حبايبي يا حلوين»، و«جميل يا جميل»، و«يا أبو ضحكة جنان»، كما أبدع في القصائد الغنائية ومن أشهرها، «لا وعينيكِ»، و«أضنيتني بالهجر».
كما قدم عدداً من أهم ألحانه لنجوم الطرب مثل أسمهان، وسعاد محمد، وصباح، ووردة الجزائرية، وفايزة أحمد، ومحرم فؤاد.
ورغم الشجن والحزن الذي لازمه لفترات طويلة في حياته، تميزت ألحانه بالمرح الشديد، وهو ما ظهر في ألحانه للشحرورة صباح ومنها أغاني «يا دلع يا دلع»، و«حبيبة أمها»، و«أكلك منين يا بطة»، و«زنوبة».
كان الأطرش من فرط أشجانه وآلامه الحياتية التي مر بها منذ صغره يقول: إن الآهات في الغناء تجمع دائماً بين الطرب والألم معاً، فلم تكف آهاته إلا برحيله عن دنيانا يوم 26 كانون الأول عام 1974 إثر أزمة قلبية شديدة، جعلت جمهوره الكبير في حسرة أشد، ولسان حالهم يقول: «مطرب الحب.. مات بالقلب».
إلى أوروبا
عام 1937، تلقى فريد عرضين من الإذاعة البريطانية لتسجيل بعض الأسطوانات في لندن، فكانت أول رحلة له إلى أوروبا، وعلم بعد ذلك أن التسجيل سيكون في أحد استوديوهات باريس، فذهب إلى العنوان، وعند دخوله وجد فرقة موسيقية كبيرة العدد، فألقى التحية عليهم إلا أنهم لم يعيروه اهتماماً، إلا بعد أن بدأت أنامله تعزف على أوتار عوده لتخرج أنغام بديعة أجبرت الجميع على الإنصات والاستماع، وبعدها تقدم إليه المايسترو واعتذر لسلوكهم معللاً أن مؤلفي الموسيقا شيوخ يكتسي شعرهم باللون الأبيض ولم نشاهد أبداً مؤلفاً موسيقياً في مثل سنك.
دعاء الكروان
بعد تأسيس الفنان الراحل لشركة «أفلام فريد الأطرش»، قرر أن ينتج لنفسه عملاً فنياً مميزاً يكون فاتحة إنتاجه، فاتجه إلى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وطلب منه إنتاج تحفته «دعاء الكروان»، في فيلم سينمائي.
وقد استجاب لطلبه وسمح له بذلك بعدما وثق في الاستعدادات الكبيرة التي ستبذل لظهور قصته بالمظهر اللائق بهذا العمل الفني الجديد، وأخذ الأطرش، يواصل العمل ليل نهار لاتخاذ الوسائل المتعلقة بإنتاج عمل ضخم جدير بأول عمل سينمائي لأفلام فريد الأطرش.
ولكي يكون الفيلم بالشكل الذي يتمناه، قام ببيع مزرعة الخيل الخاصة به، وسيارته واقترض أموالاً من بعض أصدقائه.
ويعد هذا الفيلم من بين أفضل الأفلام التي قدمتها السينما المصرية وجاء في الترتيب السادس في قائمة أفضل عشرة أفلام في تاريخ هذه السينما، وذلك في الاستفتاء الذي أجرته مجلة «فنون» المصرية عام 1984. وقد عرض الفيلم لأول مرة عام 1959، واختير لتمثيل السينما المصرية في مهرجان «برلين» الدولي.
مقتطفات من حياته
– تقديراً لمواقفه ولعطائه المتميز وخاصة في مجال الأغنية الوطنية، زاره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمنزله في القاهرة ومنحه وسام الجمهورية من الدرجة الأولى.
– الفنان العربي الوحيد الذي حصل على أربع جنسيات عربية هي المصرية والسودانية واللبنانية عدا جنسيته السورية الأصلية.
– أرسى عبر أفلامه قواعد الفيلم الاستعراضي والأوبريت السينمائية والمقدمات الموسيقية الأوركسترالية والأغاني الكوميدية، كما قدم فيها الموال والأغنية الكوميدية والشعبية والشامية والتانغو والرومبا والأغاني التعبيرية.
– أول أجر تقضاه نحو 150 قرشاً نظير عشر دقائق من العزف على العود المنفرد في الإذاعة، وأكبر أجر تقضاه كان 12 ألف جنيه نظير قيامه ببطولة فيلم (شهر عسل) عام 1945.
– الفنان العربي الوحيد المسجل في قائمة الفنانين الخالدين (الموسوعة الفرنسية الانسيكلو بيدي).
– الوحيد حتى الآن الذي حصل على أكثر من 20 وساماً وقلادة من مختلف الدول العربية والعالمية منها ميدالية الخلود من فرنسا 1965م.
– قدمت أغانيه وعزفت في أوروبا ورأس جمعية المؤلفين والملحنين المصرية لمدة طويلة.
– عند خبر وفاته قطع التلفزيون الإنكليزي برامجه ليعلن خبر رحيله وقدم برنامجاً فورياً عنه لمدة نصف ساعة ضم حديثاً مصوراً معه وبعضاً من أعماله التي ارتقت إلى العالمية.