نريد فناً سينمائياً ذا تأثير إيجابي يستمد مقوماته من حياتنا … د. نجاح العطار: الثقافة العابثة التي تنشر الفكر الاستعماري والرجعي نرفضها ونحاربها
| إسماعيل مروة
استطاعت السينما أن تكون عاملاً مؤثراً وفاعلاً في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وتجاوزت السينما حدود المنطق المألوف، فدخلت في صلب الحياة السياسية، وحازت رضا ودعم أصحاب القرار من البلدان المتقدمة، وخاصة في نقلتها التقنية والنوعية، عندما وقعت تحت السيطرة الأميركية، ونشأت صناعة السينما الهوليودية، التي أنهت مرحلة السينما الأوروبية فرنسية وإيطالية، وتحولت إلى صناعة خطرة للغاية تتجاوز المتعة والجمال إلى غايات مدروسة بعناية، مع الوصول إلى الإمتاع والتشويق، وأعلى وسائل التقانة، فتحولت السينما إلى أم للفنون البصرية، وإلى معجزة حقيقية تفعل ما يعجز غيرها عن فعله..
من هنا يبرز ذلك الفهم العميق الذي ندر أن نجده لدى كثير من المعنيين في بلداننا العربية، والذي ظهر واضحاً وجلياً عند الأديبة السيدة الدكتورة نجاح العطار، سواء كان ذلك في تأسيسها لصناعة سينمائية سورية فاعلة، أم في دعمها للسينما وصناعتها، أو في متابعتها للصناعة السينمائية السورية، ولأن الجهد المخلص لا يضيع مع الأيام، جاء كتاب (السينما أم الفنون ومعجزة العصر) الصادر عن الهيئة السورية العامة للكتاب، والذي يضم شذرات مما قدمته السيدة الدكتورة العطار للسينما ومسيرتها.
القيمة السينمائية
جاء عنوان الكتاب كما هي العادة من الدكتورة العطار متسماً بالبلاغة والدلالة، ويجري في إطار المنطق، فقد ساد عرف لدى الفنانين والنقاد بأن المسرح هو أبو الفنون، فلم تشأ أن تنازع المسرح مكانته وقيمته، فتركت للمسرح أبوته، واختارت للسينما تعبير الأمومة، بما يحمل هذا التعبير من خصوبة وثراء ومقدرة على أن يجلو الأمور ويظهرها ويظهّرها، وخاصة مع القدرة العجيبة للسينما على الانتقال والاختزال والثراء وإغراء الشاشة، وأردفت الأمومة بالمعجزة، وهذا تعبير دقيق لمن وعى وعرف السينما على حقيقتها وحقيقة دورها، فهي معجزة في شكلها، وفي مضامينها، وفي تأثيرها، وفي طقوسها التي تحمل الكثير من الخصوصية، وإعجاز السينما الحقيقي يتمثل في قدرتها على التغيير والإقناع، ولو أخذنا أفلام الحربين العالميتين، وأفلام حرب فيتنام، وأفلام الكاوبوي وغيرها لأدركنا ذلك الكم من الخطورة الذي يجعل السينما معجزة العصر، التي بدأت، وما تزال مستمرة، ومن الصعب أن ينال من مكانتها أي تطور، وأعلى درجات إعجازها أن كل التطور الحاصل في العالم صبّ في خدمتها.. أقول هذا لأن محتوى الكتاب يعرض للفهم العميق للسينما وخطورتها «لئن كان للفن أعمدة فإن الفن السينمائي هو أضخم أعمدتها، لأنه أكثر الفنون استيعاباً للفنون، ففي ذاته تنطوي ذوات، هي من الفن ألوان، يقبسها، ويدمجها، ويستخدمها،.. عملت جميعاً على خلقه فناً جماهيرياً عبقرياً، هو الأكثر انتشاراً، والأشد تأثيراً، والأقوى شأناً في حالتي الإيجاب والسلب».. وهذا الإيمان العميق بدور السينما حدد منطلقات السيدة الدكتورة عندما كانت وزيرة للثقافة، فهي منطلقات فكرية وتقانية «منطلقنا في السينما، كما هو في السياسة والثقافة والاقتصاد وكل النشاطات والفعاليات الفكرية والعضوية، هو المنطلق القومي.. إننا مع الحداثة، مع العصرنة، مع التجديد في الثقافة ووسائلها، ولكن يجب ألا يغرب عن بالنا أن هناك ثقافة وثقافة، هناك ثقافة قومية، وطنية تحررية، تقدمية، جادة، هادفة، وهذه هي الثقافة التي نريدها ونعمل لها، وهناك ثقافة لا قومية، لا إنسانية، شكلية، عابثة، متحللة، تنشر الفكر الاستعماري والرجعي.. وهذه هي الثقافة التي نرفضها ونقاومها».
هذه محددات صناعة السينما العربية والسورية كما تراها د. العطار من موقع المسؤولية والمتابعة والتخطيط، لأن السينما السورية والعربية لم تبلغ الطور الذي يجعلها ترفاً، فرسالتها هي الأهم.
السينما والتقاليد والتأسيس
السينما السورية موجودة منذ سنوات طويلة، لكنها كانت مرتبطة بإنتاجات متفرقة، سواء من القطاع العام أو الخاص، فنشهد صناعة فيلم مميز، وأفلام أخرى لا تحمل رسالة سورية والسينما، وعانت السينما السورية الكثير، ومن هنا تأتي أهمية الوقوف عند السينما السورية وتقاليدها والتأسيس لها كصناعة. فمهما كانت هذه السينما مهمة، إن يكن مخططاً لها، فإنها تفقد الكثير من نقاط الأهمية، والسيدة الدكتورة العطار في أول وقفاتها تستعرض هموم السينما السورية وواقعها «علينا أن ننتج لتصبح لنا تقاليد سينمائية، لأن ما يصنع تاريخ سينما ما، هي التقاليد السينمائية التي استطاعت السينما أن ترسيها وتعمقها، عبر الممارسة الطويلة المتأنية والمتنامية، حتى تصبح هذه التقاليد صمام أمان وأداة وقاية من الانحراف».
ولا يمنعها وهي الوزيرة آنذاك، والمشرفة على إنتاج المؤسسة العامة للسينما أن تحدد مواطن الخلل والضعف والمخالفات، إيماناً منها بأن معرفة النواقص يمكن أن تدل على الطريق القويمة للنهوض بالسينما، وهذا الاعتراف لا يقوم به إلا العلميون الذين يريدون صلاحاً، ولا يكابرون في الدفاع عن الأخطاء «لو تتبعنا مراحل تصوير الفيلم، في القطاع العام، لوجدنا الكثير من المخالفات التي تؤثر في نوعية الإنتاج، وتبطئ من وتيرته».
وفي حديثها عن آليات نجاح العمل السينمائي توجز بمعرفة، وتحاول أن تنكر إحاطتها بالآليات، لتتيح للمتخصصين أن يقوموا بواجباتهم «لست خبيرة في صناعة السينما.. غير أن هناك أموراً مستعجلة ينبغي الشروع بها، منذ الآن، وهي الإنتاج السينمائي الجيد أيضاً، والدخول في إنتاج مشترك مع الغير على أساس خطتنا الوطنية للسينما، وإيجاد الأسواق لأفلامنا، وإشراك فنانين مجربين ومشهورين، والإفادة من الإنتاج السينمائي الأجنبي على أراضينا، والاهتمام بالنوادي السينمائية ومساعدتها، ونشر الثقافة السينمائية.. والعمل بجد على بناء المدينة السينمائية..».
هذه الآراء كانت عام 1977 قبل أكثر من أربعة عقود، وكما نرى فإن ما طرحته الدكتورة العطار من موقع المسؤولية كان شجاعاً وطموحاً ونادراً، ويؤسس لصناعة سينمائية وضع خطوطها خبير حريص على الثقافة السورية وسينماها، وإن حاولت أن تظهر عدم التخصص، ولو استعرضنا ما وضعته من خطة لوجدنا أنها السبيل الوحيد الذي لم يتم العمل عليه كما يجب.
• الإنتاج التراكمي الذي يؤسس للتقاليد.
• الإنتاج الجيد الذي يتجاوز المخالفات والهدر للوقت والجهد.
• الإنتاج المشترك وفق الخطة الوطنية والرؤية السورية.
• الإفادة من الإنتاج السينمائي الأجنبي على أراضينا لاكتساب الخبرة والمال وتشغيل فنيينا.
• النوادي السينمائية ودعمها لتقوم بدورها.
• نشر الثقافة السينمائية.
• التأسيس لمدينة سينمائية، ومن هذا النص المهم نجد أن الدكتورة العطار الوزيرة السورية المسؤولة طرحت قبل أي دولة عربية موضوع إنشاء مدينة سينمائية، مدينة مجهزة لصناعة السينما السورية، لتكون هذه المدينة مستفيدة من المدن الأخرى المماثلة والشبيهة في الصناعة السينمائية العالمية.. وكل هذا ينبع من إيمان بصناعة السينما، وبأثرها وتأثيرها في كل المستويات الثقافية والبشرية والاقتصادية.. ما يؤسس لثقافة سورية تنتقل عبر صورة فنية وبسهولة بعيدة عن أي نوع من التدخل بين البلدان التي تشكل سوقاً للفيلم السوري.. ومن هنا كانت فكرة إطلاق مهرجان دمشق السينمائي الذي أسهم في صناعة السينما السورية، ووصل إلى مراحل متقدمة وعالمية قبل أن تبدأ الحرب على سورية عام 2011.
السينما ودورها وروادها
بدأت الخطوات العلمية الأولى لتكريس التقاليد السينمائية السورية بعد تاريخ طويل من الإنتاج عام 1978، وهي خطوة اتبعتها الدكتورة العطار بغية نشر الثقافة السينمائية على المستوى الثقافي والشعبي.
ففي العيد الذهبي للسينما السورية، ومرور خمسين عاماً على أول إنتاج سوري سينمائي تشير الدكتورة العطار إلى أهمية السينما، وإلى ضرورة فهم هذا الدور وهذه الأهمية «لقد فطنت الأمم المتقدمة، منذ وقت مبكر، إلى دور السينما الكبير، وأثرها الفعال في نقل الفكر عبر الصوت والصورة، وبوساطة اللوحة والنغم، إضافة إلى القصة المشوقة والإخراج المبدع والتمثيل الرائع».
وحددت في ذلك اللقاء الخطة الطموحة- التي لم تتحقق إلى الآن- نحن في سبيلنا لإنشاء المجلس الوطني الأعلى للسينما، منطلقين في ذلك من مفهوم ثقافي محدد، ومن حاجتنا إلى سينما قومية، وطنية، تقدمية، إنسانية، جادة. على درجة من الأصالة والنضج الفني، قادرة على أن تعبر عن ضميرنا وأهدافنا وقضيتنا العربية بكل أبعادها وعن تطلعات شعبنا ومشاكله وقضاياه».
وفي سبيل ذلك، وتعزيز الدور السينمائي والسينمائيين السوريين، قامت السيدة الوزيرة بتكريم السينمائيين الرواد لتعزيز دور السينما، ووضع السينمائيين في مكانتهم اللائقة، وذلك إيذاناً بإطلاق عرس السينما السورية- مهرجان دمشق السينمائي عام 1979، والذي كان من المهرجانات الفعالة والرائدة، وبعملية رصد بسيطة نجد أن هذا المهرجان انطلق من آفاق عربية وآسيوية، ومن سينما جادة وتظاهرات ذات قيمة عالية جمعت حولها المثقفين، لتصل في الدورات الأخيرة قبل الحرب إلى آفاق عالمية عندما كان السيد محمد الأحمد وزير الثقافة مديراً عاماً للمؤسسة العامة للسينما.
المهرجان والقضايا
على الرغم من أن الكتاب يضم كلمات في افتتاحات مهرجانات السينما في مهرجان دمشق السينمائي الذي بدأت دورته الأولى عام 1979، إلا أن كلمات الدكتورة العطار كانت مضيئة ومفتاحية، وتبتعد عن المناسباتية في مثل هذه اللقاءات، وفي كل مهرجان كانت تثير قضية أو أكثر من قضايا السينما السورية والعربية، وها هي في الدورة الأولى تقول مؤكدة دور المهرجان بعيداً عن الاستعراض والجوائز، وذلك من إدراكها لدور السينما الخطرة ويغدو مهرجاننا هذا اتحاداً باسم الفن ومن أجله، في الرغبة المشتركة للجميع، وهي النهوض بالسينما في بلدانهم، لتكون في خطورة دورها، سلاحاً خطيراً مناضلاً في سبيل المستقبل، وأداة تعبر بالصورة والصوت عن تطلعات شعوبنا، عن قضاياها، عن أكرم وأعمق أمانيها الوطنية والقومية والإنسانية.
هذا المنطلق وهذه البداية تظهر أن السينما ليست رفاهية أو ظاهرة كمالية، وإنما هي حاجة وضرورة، لأن المنطلق فكري وثقافي بالدرجة الأولى، وهذا الأمر يتعزز من اللقاء الأول حين تؤكد دور السينما كسلاح قوي وفعال في نهضة الشعوب وتحررها.
«حين نؤكد على سلاح السينما في المعركة، فلأننا، كل في بلده، نواجه معركة، ضد المعتدين والمحتلين، وضد مغتصبي الحقوق ومشردي السكان من أراضيهم وبيوتهم، وضد الفقر والجهل والتخلف، ولأجل رفع راية الشرف الوطني والقيم الإنسانية، وتنفيذ ما جاء في المواثيق الدولية».
وهذا الأمر يندرج في إطار تعزيز ثقافة السينما في المجتمع الذي طرحته الدكتورة العطار من قبل، وفي تغيير الصورة النمطية الراسخة في أذهان الناس في المجتمع، هذه الصورة التي لا تعطي السينما أهميتها ودورها فهي القادرة بالصورة والصوت والقصة أن تنقل ما تعانيه مجتمعاتنا للعالم الآخر، والقادرة على لفت الانتباه إلى الحقوق المشروعة وفق المواثيق الدولية، وهي القادرة على محاربة الجهل والتخلف.
لذلك كان من الأهمية بمكان أن نقرأ هذه الطروحات والرؤى التي مر عليها قرابة أربعة عقود لنجري جلسة مراجعة حقيقية لما تم إنجازه، ولما لم يتم حتى الآن..! وهل استطعنا، ليس كسوريين فقط، بل كشعوب متحررة بدأ المهرجان في مخاطبتها (من أجل سينما متحررة) هل استطعنا أن نؤسس لسينما تنقل آمالنا وآلامنا وتبرز حقيقتنا وحقيقة مجتمعاتنا للعالم الدولي؟ وهل استفدنا من السينما في مسيرة مقاومة الاستعمار والجهل والتخلف؟!
السينما وقضايا المجتمع
إن توثيق مسيرة السينما السورية ومهرجان دمشق السينمائي من الأهمية بمكان لأن هذا التوثيق يظهر أن السينما لم تكن غاية، وإنما كانت وسيلة لقضايا الشعب والمجتمع، لذلك نادت كما رأينا سابقاً الدكتورة العطار بضرورة التأسيس لسينما، كل في بلده، من أجل قضايا المجتمع، فالدعوة إلى السينما تحمل غايات عدة عند مؤسسها في سورية وداعمها، وهنا أخص الدولة، ممثلة بشخصية السيدة الوزيرة آنذاك، فالسينما علاوة على الفن والصورة والصوت واللوحة والإخراج تعمل على محاور عدة:
• الدفاع عن القضايا العادلة في المحافل الدولية وصولاً إلى العدل.
• التخلص من الاستعمار والتخلف والرجعية.
• التنوير والتثقيف لشرائح المجتمع ضمن سياسة سينمائية ثقافية مهمة.
وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن نوعية محددة من السينما، ولا تستطيع أن تقدمه السينما التجارية التي تسعى إلى الربح والمال والإغراء كما كان الحال في أفلام الخمسينيات والستينيات والى منتصف السبعينيات، ومن هنا تأتي إشارة الدكتورة العطار إلى صفات الإنتاج السينمائي المرجوة.
«العمل الفني والسينما هي أبرز وأخطر ممثل له، لا يكون فناً إذا لم يعالج قضايا مجتمعه، والقضايا الإنسانية عامة، معالجة صادقة، جادة، جريئة، تشق طريقها عبر الوسيلة الأفضل لتوصيلها.. إن السينما هي التي تقدم المادة الأولى الصادقة لأحلامنا وتنتج من خلال هذه المادة دفقاً من الأحاسيس التي تندغم بحياتنا، وتنحفر في ذاكرتنا، ومنها تتشكل مع الأيام، الرؤية الإنسانية التقدمية التي تنشر الوعي والمعرفة».
هذا المزج بين الوسيلة والرسالة قلّ أن نجده، ففي هذا الكتاب التوثيقي لمسيرة السينما السورية لأكثر من عشرين عاماً، إضاءات على تجارب الريادة تعطينا الطريق التي يجب أن نسلكها في بحثنا عن السينما ودورها التثقيفي التنويري التحرري الجمالي.
(السينما أم الفنون ومعجزة العصر) للسيدة الدكتورة نجاح العطار توثيق ورؤيوية، وليس توثيقاً فحسب، كتاب يمزج بمهارة عالية ما بين الفن والرسالة للسينما، إضافة إلى رصده الدقيق لدور الدولة والقطاع العام في إنتاج السينما التي تعبر عن البلدان وقضاياها، صاغتها السيدة الدكتورة ببراعة ولغة مشرقة لا تختلف كثيراً عن المشهدية التي تقدمها السينما بشاشة تعدل حياة الإنسان.