سؤال ثائر
حسن م. يوسف :
أثناء الاستراحة بين جلستي الصباح والظهيرة، من المؤتمر الإعلامي الدولي لمواجهة الإرهاب التكفيري الذي عقد في دار الأوبرا بدمشق يومي الجمعة والسبت 24 و25 من الشهر الماضي، كنت واقفاً في بهو الدار عندما لمحت عينين براقتين تبتسمان لي وسط الزحام، تتوسطان وجهاً أبيض البشرة تغطيه لحية مرسلة فاحمة السواد. لم يمهلني صاحب تلك العينين كي أتعرف عليه، إذ انقض نحوي بسرعة خاطفة، وفجأة وجدت نفسي أمام رجل مفتول العضلات، مربوع القامة، يبسط لي يده بحيوية وعنفوان الشباب، شددت على يده وأنا أغالب ارتباكي لأنني لم أعرفه، وعندما لاحظ ذلك شد على يدي قائلاً: أنا صديقك ثائر العجلاني. غمغمت معتذراً «العمر له حق» وتعانقنا كصديقين حقيقيين عتيقين.
صحيح أن ثائر العجلاني صديقي على الفيس بوك منذ فترة طويلة، وأنا أتابع جل ما ينشره على صفحته، كما أتابع كتاباته الصحفية وتغطياته الإخبارية في شام إف أم و«الوطن» ومحطات التلفزيون، لكن تلك كانت هي المرة الأولى التي نلتقي فيها وجهاً لوجه.
رمقني ثائر بنظرة متفحصة مائلة ووجهه يرفرف بابتسامة تنضح بالشجاعة ونبل القلب، ثم سألني فجأة بطلاقته المعهودة الودود التي يدخل بها إلى الناس كما النعاس:
«المؤتمر، كيف؟»
فاجأني ذلك السؤال الجدي المقتضب، وبينما كنت أفكر بجواب مناسب، اقترب منا في تلك اللحظة شخص ضخم تأبط ثائر، من دون سلام ولا استئذان، وسحبه مبتعداً وهو يهمس في أذنه، راقبت ثائر والابتسامة تتلاشى عن وجهه لتحل محلها علامات الجد، وبعد خطوتين، التفت ثائر نحوي قائلاً: «راجع لك». غير أن ثائر لم يرجع وقد كان ذلك هو لقائي الوحيد معه.
كل ماكنت أعرفه عن ثائر هو أنه ابن الباحث والمؤرخ والإعلامي المجتهد الدمث شمس الدين العجلاني الذي أكرمتني الظروف بالعمل معه لفترة قصيرة، ثم باعدت بيننا، والحق أن معرفتي بثائر وبوالده محدودة كما أسلفت، ولا تفسر هذا الحزن العميق الذي بدأ يتآكلني منذ أن بلغني نبأ استشهاد هذا الشاب النبيل. صحيح أنني سبق أن جربت هذا النوع من الألم مراراً، إذ فقدت في هذه الحرب- الجريمة، الكثير من الأقارب والأصدقاء والمعارف، وعلى رأسهم ابن أختي حسن الذي سموه على اسمي، إلا أن ألم فقدان ثائر العجلاني الذي لم ألتق به سوى أقل من دقيقتين، كان له بعد آخر، حتى إن صورته المفعمة بحرارة الحياة، لا تبارحني منذ أن بلغني نبأ استشهاده، كما لو أنها منقوشة على عيني من الداخل. والحق أنني بكيت عندما قرأت آخر لسان حال كتبه على صفحته في الفيس بوك قبيل ظهيرة يوم الأحد أي قبل ساعات محدودة من ارتقائه فجر الإثنين:
«نَحنُ خُلقنا لنبتسَم، صَباحُكم مُشرق يا سادة، رُغم كُل خطوط الغاز المَضروبة».
أعترف أنني شاهدت، عدة مرات، الفيلم الوثائقي «ليل حبيبة» الذي وثق فيه ثائر العجلاني حياة حبيبته دمشق منذ منتصف الليل وحتى الخامسة فجراً. وقد سحرتني علاقة ثائر السلسة بالناس وبالأماكن وبالكاميرا، فهو يعرف أسماء الجميع ويخاطبهم بمودة آسرة مفتتحاً فيلمه بعبارة «أنا رفيقكم ثائر العجلاني». والأهم من كل ذلك هو أن روحه السمحة انتقلت لكل من التقاهم فتحدثوا للكاميرا كصديق حميم.
هاأنذا أرى ثائر يلتفت نحوي ويقول «راجع لك». وبما أنني أدرك الآن أنه لن يرجع سأجيب عن سؤاله الجدي المقتضب: «المؤتمر، كيف؟»
شيء جيد يا صديقي أن يجتمع هذا العدد الكبير من الإعلاميين العرب والأصدقاء في دمشق الآن، غير أنه مؤتمر آخر يضاف إلى مؤتمرات مرَّت. شيء غريب يا صديقي، أن يجيد الداعشيون الفاشيون الظلاميون الذين ينتمون للماضي، استخدام تكنولوجيا المعلومات الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي لجذب الأجانب لشبكتهم وتجنيدهم للقتال في صفوفهم، في حين نحن في مؤتمراتنا مازلنا نمارس الخطابات بدلاً من ورشات العمل والعصف الفكري الخلاق!
صديقي ثائر، صحيح أننا لم نلتق سوى أقل من دقيقتين، لكن التفكير بك يذكرني بقول لأنديرا غاندي: «الاستشهاد لا ينهي شيئاً، إنه مجرد بداية».