ثقافة وفن

الوطن والجدري….

إسماعيل مروة : 

كل يوم تحدث معنا، لكننا لا ندونها ولا ننتبه إليها، فهذا أصابته أزمة عارضة، وعندما ذهبوا به إلى فلان شفي، وذاك عندما دهنوه بزيت كنيسة عوفي، وهذا نذر فنجح، وتلك نذرت وحملت بعد انقطاع الأمل، نتحدث في هذه الأمور عابثين، وأحياناً نصدّق، فمجرد أن صفعه فلان انتهت «اللقوة» وعاد فمه إلى حالته الطبيعية!
ومسحة من زيت فعلت فعلها..!
فلان مبارك، ومكان مقدس، والإنسان الطاهر دوماً في نظرهم مدنّس.
قضايا وقضايا، وأغرب ما في الأمر أن يتداولها مثقفون، وأن يمارسها مثقفات متنورات يبحثن وراء حاجة، وإن ارتبطت الحالة النفسية بأمر يبدأ أحدهم بالدفاع والحلفان بصدق ما جرى، ليصبح الدجل دواء، وتصبح الشعوذة ثقافة مجتمع وسياسة وطن.
تابعوا الشاشات، كل يوم يظهر باحث ومحلل، يقرأ ويضع، لا شيء مما قاله يحدث، ومع ذلك يتسمّر الناس لمتابعته، وتستشهد برأيه وسائل الإعلام، وهو لا يعنيه سوى شيء آخر، الإمبراطورية المالية التي لم يكن يحلم بها، يصبح فجأة سيد المجالس، وخير من امتطى السيارات الفارهة، والذي لا تغلق الأبواب أمامه، فليس بينه وبين الله حجاب!
يقولون لم تَصْدق هناك متغيرات!
يفسرون أقواله على ما لا يحلم لأنهم يحلمون بمن يركب!
في الفترة الممتدة المسماة الربيع العربي، اكتظت الشاشات بالصور والآراء والصفات، واستخرج الإعلام أمواتاً من القبور، وأعطاهم الألقاب الرنانة، فهذا عميد متقاعد، وذاك لواء متقاعد، وثالث خبير ذرة، ورابع محلل استراتيجي، ووجوه تفتي في كل شيء، يرسمون الخرائط، ويتحدثون في أرض لا يعرفونها، ويلفظون الأسماء غلطاً، ويجعلون البندقية مدفع هاون، ويشار إلى أخطائهم، لكنهم يتصدرون ويستمرون، ولم يخطر ببال أحد أن الإعلام طاحونة تستهلك ما في جوفها، وعندما يدخل أحدهم الطاحونة ليس بوسعه أن يخرج إلا مفروماً! فكيف إن كان هذا ميتاً، انتهت صلاحيته؟ لو كان بهذا الفهم وبهذه الرؤية لما انتهت صلاحيته؟
الإعلام فورة وحديث وإقناع، لكن النتيجة يجب أن تقارب ما يجري وإلا كان دجلاً.
كل يوم نتحدث ولا ننتبه.
ولكن ما دفعني إلى هذا الحديث ما رواه لي صديق مثقف، وكان طريفاً للغاية، ودالاً على أن فطرة الإنسان السليمة هي التي تدله على الأقرب للصواب، لكن عليه أن يفعل! كان يحدثني عن بساطة والده، فقال لي: كنت في الخامسة عندما أصبت بالجدري في القرية، فأخذني أبي إلى الشيخ الذي يعالج الناس، وحين ازداد ألمي سألت أبي: «ليش أنت أخدتني للشيخ، والشيخ أخد ابنو عالدكتور بالمدينة، وأبنو رفيقي حط دهون غير تبع أبوه؟!».
الغضب لصحة الابن كان عقلاً، تابع صديقي عندما تأكد أبي أن الشيخ ذهب بابنه للدكتور لم تبق شتيمة لم يشتمها للشيخ، بينه وبين نفسه طبعاً، وذهب بي إلى الطبيب نفسه، وتعافيت قبل ابن الشيخ..! تابع صديقي: شتمه بينه وبين نفسه، لأنه بقي يزوره ويطلب بركته.. واستمر على إكرام ضريحه حتى وفاته!
ما علينا، ولكن عندما تعلق الأمر بالابن انتفض الأب ورفض الدجل والشعوذة والكلام الفارغ، وخاصة أن الطرف الآخر كان مدركاً للأمر، واختار طريق العلم!
كم سيكون محترماً ذلك الشيخ لو قال للرجل البسيط: اذهب بابنك إلى الطبيب، أما أنا فلأمور دينك إرشاد؟ لو قال له: أنا سأذهب بابني معك؟!
إذا ارتبط الأمر بالابن كان بهذه الخطورة، فكيف إذا ارتبط بالأوطان؟!
آلاف الدجالين يتحدثون في الدين والسياسة والاقتصاد والشعر والدراما والأدب والتاريخ والجغرافيا والقضايا العسكرية، والجيو ما بعرف شو، وأتحداهم أن يعرف أحدهم شو هالجيو!!
عاطل عن عمل
منبوذ من أمه
مصاب بالجدري ولا من يداوي
مرتد عن حب وطنه
بضاعة مزجاة مشتراة
نماذج من الذين يتمنطقون وينظرون ويبيضون علينا، وواحد منهم لا يعرف ما يتحدث به، من قناة إلى أخرى، ومن رأي إلى آخر، وبعضهم في كل نشرة أخبار يضع أمامه اللابتوب ويظهر مع المذيع ليتحمل عرض النشرة العسكرية الميدانية كما النشرة الجوية، ولا يميز مؤشره المضاء بين سورية ولبنان والعراق.. شكراً لإضاءاتك، يهز رأسه ويرحل مع ظرفه، أو ينتظر في أماكن أخرى ليأتي يوم المكافأة!
لم أسمع من أحدهم قراءة معمقة في التاريخ
لم يستحضر أحدهم حكم الحكماء
يعرفون جميعهم، يحددون الزمان والمكان والنتيجة!
ومع الاتفاق الإيراني الغربي، كل من تحدث انقسم إلى منتصر للغرب ومنتصر لإيران، ولم أقرأ إلا لكاتب واحد فقط عبارة (ولسنا على علم بالاتفاقات غير المعلنة) أليست مهمة هذه العبارة؟
ألا تعيدنا إلى ما كنا ندرسه من أسباب مباشرة وأسباب غير مباشرة؟ ألا تعيدنا إلى البنود السرية والعلنية من كل المؤتمرات التي رافقت بروز المسألة الشرقية وما تزال؟
اطردوهم من الشاشات، وكفى ارتزاقاً ودجلاً على صحة وطن، وكما أرسل البسيط ولده للطبيب، حافظوا على الوطن بالعارفين حقيقة لا الدجالين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن