ثقافة وفن

تشويهات محتملة… ارتقاء في صورة العنف عن قصيدة يونانية في عرض التخرج…تفاوت المستوى والبنية والأداء وانسجام مكونات المسرحية

 عامر فؤاد عامر : 

يقول غاندي في فلسفة اللا عنف: «حتى وإنّ بدا العنف ضرورياً فهو ليس مشروعاً». وفي مشروع تخرج طلبة السنة الربعة – قسم الرقص، نجد الكثير من انعكاسات هذا القول، فالمشهد بالمجمل هو مشهد يرتقي بنا كمشاهدين ليمنحنا رؤية بسيطة للعنف في صورة مؤثرة في الوجدان.

بوصلة
ما زالت عروض المعهد العالي للفنون المسرحيّة تعدّ بوصلة التوجّه في المسرح السوري، وهذا ما لاحظنا وجوده في عرض «تشويهات محتملة» وهو عرض راقص، لكنه مدروس بعناية بين الأداء، والتصميم، والإشراف الدرامي، والسينوغرافيا، والإضاءة، والديكور، والموسيقا، وسائر العناصر التي ألّفته، فإقبال الناس لحضور عرض تخرج قسم الرقص هو دلالة واضحة على السمعة الإيجابيّة لمن يجتهد ويقدّم، وهذا ما حققه قسم الرقص هذا العام في مقدمة أقسام المعهد العالي للفنون المسرحيّة.

خطوط زمنيّة وتنبؤ
كانت البداية مع مشاهد، وحركات، ولعب على الإضاءة، ليكتشف المشاهد أن الراقصين الثلاثة يرغبون في قول شيءٍ ما إنساني الصبغة، يحمل معاناة بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، ليهدأ إيقاع حركاتهم قليلاً، وينطلق المحور الأول للعرض من هنا، ففي القسم الأول بدت الحياة روتينيّة تحمل حالة من الاجتهاد، والاعتياد، وانتظار الأمل، لكن ليس من أيّ جهة يمكن توقعها، فتتكرر الحركات لتكريس هذه الحالة، أمّا في القسم الثاني، الذي يُعلن عنه لحظة سماع دوي انفجار وسقوط الثلاثة مرّة واحدة لنراهم من جديد محصورين في قيود مفروضة، وغير مُتحدي الحال، كما كانوا سابقاً، ويتمّ تسليط الضوء هنا بصورة فرديّة على كلّ راقص، ليبيّن لنا معاناته الشخصيّة ضمن ظروف شائكة وغريبة عما اعتاده، وهكذا كلٌّ من مكانه، وعلى أطراف المسرح وجوانبه. في المشهد الثالث، الذي يبدأ مع محاولة الثلاثة كسر القيود، والاجتماع مع بعضهم مع لغة من التعارض، والاختلاف، والحوارات المشتتة عبر حركات الأيدي، والأرجل، والرأس، إلى أن تنسجم الحركات بعد معاناة، وطول انتظار، فيصل الجميع لفكرة واحدة هي نزع القيود من حياته، وكسرها، وجعلها قيوداً أو حواجز تحمي حياتنا مجتمعين، فتناثرت هذه القيود على جوانب المسرح ليلتقي الثلاثة معاً في صورة أكثر قرباً وانسجاماً من ذي قبل.
تفاوت المستوى

تفاوتت أدوات الطلاب الراقصين الثلاثة، فهناك اختلاف واضح في الحجوم، كما أن وجود فتاة واحدة وشابين سيمنحها خصوصيّة أكبر، لتبدو المقارنة دقيقة أكثر بين الشابين، وعلى الرغم من ذلك يمكن الإشادة بمحاولة دمج الحركات، والاشتراك بها على الرغم من كلّ ذلك الاختلاف، لكن الملاحظة الأبرز كانت في اجتهاد هؤلاء الثلاثة لتقديم عرضهم بصورة جيدة، لو قارنا شغلهم خلال سنوات سابقة، إذ يبدو الفرق أكثر وضوحاً، فقد وصلوا اليوم لثقة أكبر في آليّة الحركة وتقديمها بأقرب ما يمكن من الإتقان. جاءت الرقصات معاصرة، وفيها كثير من الحداثة، فلم يكن لها انتماء واضح لمدرسة محددة، لكنها خدمت العرض كما يليق، في مدّة تجاوزت نصف الساعة بقليل، وقد التقينا مصممة العرض والمشرفة عليه «نغم معلا» ليكون لنا هذا الحديث الخاصّ: «قدّمنا العرض في 3 أيام، وكان الجمهور متأثراً حسبما لاحظت، فالناس حضرت، وتابعت، وشعرت بأن ما نقدّمه هو لغة لم يتمكنوا من البوح بها، بمعنى أن العرض قدّم معاناة الناس، وهذا إيجابي جداً برأيي، وقد لاحظت نفس التأثير في أنماط مختلفة منهم، وهذا يُحسب للعرض، وقد حاولت أن أقدّم العرض حسبما أتيح لي على الرغم من كلّ الظروف والتغيرات ومدّة التدريب كانت 3 أشهر حتى نصل للصورة الأخيرة». وعن التكرار في بعض الحركات المؤداة والهدف منه تجيب معلا: «كررنا لنثبت الفكرة المقصودة ونكرسها، وبذلك جاء التكرار بقصد ولم يكن عبثيّاً، فكلنا يعيش في ظرف واحد، ولكننا نعاني كلّ بطريقته، لكن بالمجمل هذا الظرف وحد لدينا شيئاً ما، ولذلك نرى الراقصين الثلاثة كلاً يتحدّث عن معاناته من وجهة نظره الخاصّة، وعموماً حاولت عدم توجيه الفكرة بصورة مباشرة؛ فقسمت الحركات لثلاثة أنماط ليقع المشاهد على كمية أكبر من المعاناة التي تلامسه أو التي عاشها». أمّا عن أداء الطلاب وتقييمها لأدائهم وقد أصبجوا خريجي هذا القسم وأنهوا دراستهم فيه: «التفاوت في المستوى إجباري، فكلٌّ منهم جاء من خلفيّة راقصة مختلفة عن غيرها، وفي المشاهد الجماعيّة حاولت أن تكون متحدّة لكن في المشاهد الفرديّة ستظهر ذات الراقص، وقدراته، وإمكانيّاته، وهذا طبيعي، وأتمنى لهم أن يتابعوا الطريق، ويبحثوا عن إمكانيّاتهم أكثر ويجدوا ضالتهم». اعتمدنا على تقنيات الرقص الحديث مع القليل من الرقص المعاصر.

تأثير موسيقي مباشر
للموسيقا وقعها الجاذب أيضاً، ولكن اللون الحزين منها هو الطاغي، فالاقتراب من مشاهد العنف لا بدّ أن ينحو بهذا الاتجاه حتماً، وحبّذا لو كانت الموسيقا المرافقة، ولو في جزءٍ بسيط منها تسوق باتجاه تفاؤلي أكثر، وبذلك كانت الموسيقا المنتقاة مباشرة جداً، واتجهت نحو وجدان ومشاعر المتلقي بصورة سريعة، فلم تمنح في أي لحظة من لحظات العرض فسحة للتنفس أو التأمل بل كانت مستمرة من بداية العرض لنهايته دون توقف مقصود أو غياب، وبذلك يمكن توجيه الملاحظة مرّتين للموسيقا على الرغم من جمال نوعها، فمرّة في المباشرة، ومرّة في استمراريتها منذ بداية العرض وحتى النهاية.

ألوان محددة
لم يحمل العرض تعدداً في الألوان، فكان اللون الأسود والرمادي وقليل من الأبيض هو كلّ ما انتشر على المسرح، وهذا يخدم حالة العنف التي تحدّث عنها، فكان هناك ابتعاد واضح عن اللون الأحمر الذي ربما يقترب لذهن المتلقي لحظة استيعابه لما يشير إليه الطالب الراقص، وفي هذا إيجابيّة من حيث عدم الرغبة في الربط المباشر والانطلاق نحو مفهوم العنف بعمق، وتجريد، دون الاعتماد على المفهوم السطحي للون الأحمر، والدماء، وغيرها من الوسائل، وفي هذا أيضاً سلبيّة من حيث نسف لمكانة ألوان أخرى، فقد منحنا طابع الألوان المعتمدة جوّاً كئيباً أكثر، فلو كان المحور أو القسم الثالث من العرض الذي حمل لغة الحلّ في الانسجام والاتحاد لو كان ممتزجاً بلونٍ أخضر أوأزرق أو برتقالي مثلاً، لكان في ذلك إشارة لأملٍ متجدد وارتقاء في حياة مستقبليّة قادمة، ولربما ذلك يمنح العرض حالة من الإنعاش التي يحتاجها المتلقي في هذا الظرف الزمني بالذات، فمع كلّ الإسقاطات التي قدّمها العرض أصبح لزاماً على عاتقه أن يشير إلى نور الحلّ بلغة الأمل عبر تجدد الألوان وليس إلى بقائها نفسها، وهذا ما حمله بروشور العرض الذي كان بين الأبيض والزهري والأزرق ولم يحمل أي لون من ألوان العرض التي أشرنا إليها!

خدمة الإضاءة
خدمت الإضاءة العرض بصور جيّدة، فكانت تسلّط الضوء على الحدث الرئيس الذي لا بدّ من متابعته، وتطفئ الأنوار حيث يجب أن تطفئ، ولم يكن هناك أي تأخير أو تطرف في هذه اللغة التي انسجمت مع خط العرض بشكّلٍ متقن.

هدف «تشويهات محتملة»
عن قصيدة للشاعر اليوناني «يانيس ريتسوس» هذا ما حمله عنوان عرض التخرج لطلاب قسم الرقص هذا العام، وللمشرفة الدراميّة رئيسة قسم الرقص «نورا مراد» هذه الكلمة في تصريح خاصّ للوطن: «أخذنا قصيدة «تشويهات محتملة» ليانيس ريتسوس، واشتغلنا عليها في البحث، فلماذا كُتبت؟ ومتى؟ وغير ذلك من الأسئلة التي يمكننا طرحها بطريقة منهجيّة، وبعد ذلك عملنا على قراءة القصيدة بصورة معاصرة، ومن وجهة نظرنا لنقربها من الظرف الذي نعيشه اليوم، وبذلك كان العمل في جزء منه الكتابة على الورق، وتوثيق الأفكار، والتعاون مع الأستاذة «نغم» من ناحية، ومع الطلاب من ناحية أخرى، ومع الاقتراح السينوغرافي الذي قُدّم من قبل «نعمان جود» و«أسماء الشوّاف» فهو جزء أساسي من الشغل، إذ جاءت الإطارات التي لا بدّ من الاستفادة منها بأقصى ما يمكن كمفهوم درامي، وأعتقد أن في هذه التجربة استطعنا أكثر إيجاد انسجام أكبر بين العناصر المؤلفة للعرض مقارنة بعرض السنة الماضية».

والهدف أيضاً…
وعن المقصد من الألوان التي حُددت في العرض تقول «نورا مراد»: «كان تحديد هذه الألوان بصورة مقصودة للناس المؤطرين بين لونين إمّا الأبيض أو الأسود، وحتى لو جرّبوا الخروج منها فهناك قيود تربكهم، ولم يقدروا على ذلك، وهنا يولد التطرف بطريقة أو بأخرى، ونلامس عنفهم أكثر، وبالتالي هي دوامة لا تنتهي، وهذا ما حاولنا قوله، ولأوّل مرّة حاولنا الحديث عن العنف بلطف، فالفن جمال ولا فائدة من نقل العنف كما هو على الخشبة، وقدمناها بطريقة تمس المتلقي ومن دون إزعاج. أما الإطار الأبيض الذي حددنا به المسرح فهو ليس للتحديد بل لفرد مساحة أكبر للمسرح وما نقدّم عليه».

مع الطلاب المتخرجين
التقينا طلاب قسم الرقص في عرضهم الأخير وهم الثلاثة: «أحمد شعبان، ورهف الشيحاوي، ونورس عثمان» ليكون لهم هذه التصريحات. والبداية لـ«أحمد شعبان» الذي قال: «تعبنا في ثلاثة أشهر من التدريب، والعمل، والنقاش، فهناك اختلاف في الأحجام، والبنية، والخصوصيّة لكلّ منّا، بالتعاون مع رئيسة قسم الرقص «نورا مراد» والأستاذة المصممة «نغم معلا» وأشكر كلّ من قدّم لنا المساعدة». أمّا «نورس عثمان» فيضيف: «كان هناك اجتهاد بيننا حتى وصلنا للصورة الأخيرة، واعتقد بأنّه يمكننا تقديم الأفضل والأجمل لو أتيح لنا الوقت أيضاً، والآن وبعد التخرج سنبدأ بحياتنا العمليّة وهي المرحلة الأصعب، لكن لدي عدّة أفكار ومشاركات منها مشروع في الشهر العاشر سأشارك فيه مع مجموعة من الراقصين في دار الأوبرا، وأيضاً مشروع مسرح حركي، والمهم أن الأمل موجود في الاستمرار». و«رهف الشيحاوي» أحد الخريجين الثلاثة في قسم الرقص حدّثتنا:» أنا راضية عن هذه التجربة، وما قدّمته، وهذا المشروع يُظهر إمكانيّات الراقص، والتخرج هو تجربة مهمّة ومرحلة مختلفة لها وقعها الخاصّ، واليوم أقول مهنتنا صعبة، وأتمنى وجود فرص في الوطن، ولكن نضطر اليوم للبحث عنها خارج حدوده، فلا بدّ من تحقيق الطموح، والمشاركة في الفرق العالميّة، وتحقيق الذات، ولو أن مثل هذه الفرص متاحة لنا هنا لكنا في غنى عن البحث عنها في الخارج».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن